ليس بمعنى التحول ... الجلاء صورة هو الشكل المتحول من إنذار غورو إلى صيحات ليبرمان، وربما من دخان دمشق إلى احتراق بغداد، بينما تبقى الصورة الأخيرة لجلاء مستمر كل لحظة في أذهاننا، حتى ولو نسيت الأجيال الحاضرة العام الذي انتهى فيه التواجد العسكري الفرنسي من سورية، وبقي التحدي في اللون السياسي الذي لم نألفه حتى اللحظة في صراع الحدود وانتهاء حرياتنا المطلقة في الانتقال داخل جغرافية لا نقرؤها إلى مساحة لحرياتنا قبل أن تكون دولا تتصارع الإرادات الدولية حولها.
ما يمكن استرجاعه من الجلاء ليس باهتا، بل ربما أكثر حضورا من اللون السياسي الذي رافق مراحل الاستقلال الأولى، لأننا كنا نعرف أن وضوح الهدف أقوى من كل الرغبات الأخرى، وأن محاربة العدو "الحاضر" أسهل من العراك الداخلي مع القوى التي تعيش في داخلنا وتنمو على التفاصيل التي نريدها ولا نعرف نتائجها.
"الجلاء" هو المفهوم المتحول الذي يرافق كل الأجيال، لأنه ليس عيدا وطنيا فقط، بل أشكال الانتقال داخل التجارب في "دولة" معاصرة وفي حياة لا يمكن أن تتوافق إلا مع الحداثة إذا أردنا أن يكون الجلاء وضوحا في هويتنا وصورتنا. ففي عام 1946 كان بالإمكان رؤية التحدي الذي ينتظر الأجيال، وبعد ستون عام نستطيع أيضا النظر إلى الغد بأنه بقاء هذا التحدي ولو بصور لا تحمل نفس الوضوح، لأن تجربة بناء الدولة تملك تراكما متناقضا أحيانا ومترافقا مع كل التجارب الاجتماعية التي مارستها الأجيال السابقة، ونتطلع لأن تمتلك الأجيال اللاحقة الحق في تملك هذه التجربة من جديد.
وبالطبع فإن المسألة اليوم ليست أكثر تعقيدا فقط، بل تحتاج إلى أكثر من الرغبة في المعرفة، وامتلاك القرار السياسي في صنع سورية الغد، فهي ريما تتطلب أن نعيد تركيب مفاهيمنا لنخلق التسارع المطلوب في عصر يقفز على كل معطيات الماضي، ويسعى لرسم الحاضر بشكل غير مألوف.
و "الجلاء" لم يعد ذكرى .. وهو ليس رواية يتناقلها الآباء عن الأجداد ... فالمسألة أكثر من تاريخ سريع، لأنه اختزن خلاصة إرادة للناس وشكل دخول نحو العصر أو تحرر من القرن الرابع الهجري .. هل نجح الجلاء في صورته الأخيرة خارج مسألة طرد الفرنسيين؟! إنها المحاولة المستمرة لكل الأجيال كي تحقق جلاء الماضي عن حاضرها ... والدخول إلى المستقبل.