هناك زمن بعيد يفصلنا عن حرب 1948، وهو بعيد بطريقة تعاملنا مع مسألة "حقوقنا" بالدرجة الأولى، فالآليات السياسية ربما كنست كل الإرادة التي سعت لـ"التحرير"، أو تلك التي قررت الارتباط بالأرض، فبعد ستة عقود لم يبق من ذاكرة الحرب سوى "المبادرة العربية"، وملامح "إسرائيلية" تلاحق أي مواطن يحاول أن ينعش ذاكرته.

عمليا كان قرار التقسيم بداية واضحة لزمن سياسي سيتفاعل لاحقا، ليجعل فلسطين مشكلة دولية تجعلنا خارج "الفعل" الحقيقي، وتخضع حقوقنا للتوازنات التي فرضت نفسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وربما تجعل الكثيرين متمسكين اليوم بهذا القرار الذي ضمن حق العودة، بينما تتجه المفاوضات اليوم لتجاوز هذا القرار المنسي بعد تراكمت فوقه الحروب والمؤتمرات وحتى القرارات الدولية.

وما حدث لم يكن تراجعا بالمعنى الدقيق للكلمة، فعندما رفضت الدول العربية قرار التقسيم كانت "تجرب" إرادتها عبر الحرب، والنتيجة هي أنها تركت مسألة الإرادة بعد ما حدث، وحتى في التعامل السياسي فإن النكبة طبعت هذا الافتراق ما بين "السياسة" و "المقاومة" وخلقت نوعا من التماهي ما بين فن التعامل مع الواقع وإهدار الحقوق، بينما تبدو المقاومة وكأنها تبحث عن المستحيل، فبعد قرار التقسيم بدأت التجارب العربية التي على ما يبدو أصابها "رُهاب المقاومة"، فسعت لسحب أي غطاء سياسي عنها، وهذه التجارب مرت مراحل متعدد، لكنها بلا شك استندت أساسا إلى تجربة العرب الأولى عام 1948، وهنا يمكن ملاحظة ثلاث نقاط أساسية:

الأولى أن قرار التقسيم (181) الصادر عن الجمعية العامة كان تثبيتا لحق "إسرائيل" لكنه لم يكن قابلا للتنفيذ لأنه يعاكس إرادة الطرفين، فلا "الإسرائيليين" قادرين على البقاء في المنطقة التي ثبتتها الأمم المتحدة، ولا العرب كانوا قادرين على تحمل حالة اغتصاب على هذه الشاكلة.

الثاني إن بيئة قرار التقسيم كانت توحي بملامح النظام العالمي الجديد، حيث لم تكن الحرب الباردة بدأت فعليا، لكن الدولتين الأكبر بدتا راضيتين عما حدث كمدخل واضح للبحث عن مصالحهما في المنطقة، وهو ما جعل الاتحاد السوفياتي يسارع للاعتراف بـ"إسرائيل" (ربما على أسس أيديولوجية)، لكن قرار التقسيم جاء كبداية لصراع من نوع آخر على الشرق الأوسط.

الثالث أن استجابة الدول العربية لهذا القرار، ونحن نتحدث عن عدد قليل من الدول العربية المستقلة مقارنة مع اليوم، سيبقى حاضرا حتى اليوم لأن نتائج هذه الاستجابة حددت ملامح "الاعتدال" و "التطرف" كمصطلحات ستستخدم بشكل دائم في سنوات الصراع. فبعد القرار ثم الحرب ثم إعلان "تأسيس إسرائيل" فإن الأنظمة السياسية العربية ستخضع لمعيار جديد وذلك على ضوء قبولها أو رفضها للواقع الذي رٌسم الأرض...

لا شك أن ما حدث في تلك الفترة لم يكن فقط تشريد شعب، بل أيضا تشريدا للسياسة العربية، ووضعها في "خيمة" ظلت تتنقل حتى وصلت إلى مظلة "المبادرة العربية"، في وقت تحولت فيه إرادة المقاومة من مساحة موجودة داخل الأنظمة أو الجيوش إلى المجتمع الذي ينفصل اليوم بشكل واضح عن كافة تجليات النظام العربي....