صقيع السلام لا يبدأ بالتصريحات، ولا يتوقف مع مواسم الموت المجاني، أنه يتكرر مع الصورة التي تسحب المجتمع بهدوء نحو الاستباحة المجانية، ولأن السجل الذي نملكه لم يعد يتسع لأعداد الشهداء فربما علينا أن نضع "حسن النوايا" أمام صورتنا النهائية كمشردين، أو وجوه بلا جغرافية قادرة على استيعابنا.

في "حديقة" النيات الحسنة تظهر التصريحات مثل غابة الجنيات التي قرأنا عنها في الطفولة، فهي خيال يخلق الرعب، ويجعلنا نتوه مع الأقزام "الأربعة" هذه المرة، فالرباعية الدولية هي مصدر الإلهام الذي يجعل من الظلام متاهة للسياسة، ويصبح الضوء حالة نادرة طالما ان التصريحات والحديث عن التسوية قادر على ملء الفراغ وخلق جدران عازلة، فالسياسة كما نفهمها نوع من الرياضة التي يمارسها البعض كي يجعل عدسات التصوير تلاحقه.

هو بالفعل "سلام" لأفواه تعرف كيف تلقي الخطب الرنانة أمام مشهد لمجزرة، أو تقدم صورة المستقبل وسط أزيز الرصاص الذي لا ينته، وهو "سلام" حفظناه عن ظهر قلب منذ ان غادر السادات القاهرة وهبط في الأرض المحتلة ثم بدأ بـ"نواياه" ليقنعنا بأنه فاتح لبلاد الشر، وأن العالم مذهول بشجاعته على "كسر" الحاجز النفسي، بينما استمر الحاجز المادي المحقون بالدماء يتطاول أمامنا، وعندما "استقام" السلام توقفت دورتنا الدموية للحظات قبل أن تستيقظ على افتراق سياسي فتحول المقاوم إلى طريدة تتم ملاحقتها بالمؤتمرات والتنظيرات وحتى بالمقالات السياسية.

لم يكن "السلام" يوما رؤية تفرض نفسها.. ولم تستطع التصريحات سد الفجوة التي تفصلنا عن الغرب أو الشرق، وعندما نتسلى بلعبة التسوية ندرك أننا في الوقت المستقطع نشاهد القتل الذي اعتدنا عليه في شوارع غزة أو الخليل أو حتى رام الله، ونعرف أيضا أن الحروب لم تبدأ عام 1948، وأنها لم تنته لأنها بقيت مرسومة على مساحة "النكبة" التي تلاحقنا أينما ذهبنا، فالتسوية نوعا من "البهرجة" السياسية التي تفرض نفسها وكأنها ألوان قادرة على خطف الأبصار، وربما تنسى أن الصور المزروعة فيها كان فيها من الأحمر القاني ما يكفينا...

إنها مجرد حسن نوايا يطلقها البعض، أو يكتمها آخرون بانتظار الوقت المناسب، ولكنها في المقابل تترك جرحا إضافيا في زوايا المجتمع التائه ما بين حقوقه ومظاهر السياسة المتناقضة، فيتقلب على مساحة المقاومة ثم يودع الجميع لأن خياراته ليست بالضرورة سياسية.