مع انقضاء ما يزيد عن 100 بوم على ولاية الرئيس باراك أوباما، يبدو واضحاً أن مسار الحوار والانفتاح المرفق بالرسائل الأمريكية نحو مناطق الأزمات في العالم يسير وفق ما تشتهي واشنطن أولاً، ووفق آلية مريحة وهادئة نسبياً بالنسبة لكثير من الدول عموماً وسوريا منها على وجه الخصوص ثانياً.. والأيام المائة المنصرمة، ربما تكاد لا تتشابه في شيء ـ إعلامياً ودبلوماسياً ـ مع ما سبقها من سنوات اتسمت خلالها العلاقات الأمريكية السورية بالتوتر والقطيعة التي كادت أن تصل إلى حدود فقدان الأمل في إمكانية ترميم أو إصلاح ما ظهر أنه أقسى وأخشن حالات الافتراق الأمريكي ـ السوري على مدى عقود.

ومن المنطقي القول إن الخطاب الأمريكي الجديد الذي قد لا يغير في الاستراتيجية الأمريكية ـ وعلى الأرجح أنه كذلك ـ ساهم إلى حدود بعيدة في إيجاد مخارج تفضي إلى ما هو ظاهر من انفراجات في لغة التخاطب السياسي والدبلوماسي.. فالولايات المتحدة العازمة على الانسحاب من العراق، تحاول فيما تبقى لها من وقت ـ ومن وجود عسكري ـ أن تعيد رسم صورة تواجدها في المنطقة، آخذة بعين الاعتبار والأهمية ضرورة نسج علاقات مع لاعبين أساسيين ـ سوريا وإيران ـ بما يمكن أن يخدم مصالحها وبما يمكن أن يخدم إعادة التموضع والحضور الأمريكي في المنطقة بعيداً عن الأسلوب السابق، الخاسر والبائد، المتمثل بمنطق "الإملاءات والوعيد والعقوبات و العزل" لأن سنوات ثمانية مضت كانت كفيلة بحصول إعادة نظر من قبل إدارة أوباما في التوجهات الأمريكية، وهي بطبيعة الحال اقتضت البحث عن أدوات لترميم وتلميع الصورة الأمريكية!.

في ظل هذا الخطاب الأمريكي الهادئ ـ بالقياس إلى الخطاب السابق ـ لا تخفي واشنطن ارتياحها إلى مستوى الاستجابة السورية والخطاب السياسي السوري الإيجابي، والأمر نفسه بالنسبة لإظهارها ارتياحها نحو طهران ـ ومغازلتها أحياناً ـ على الرغم مما يطفو على السطح من لهجة متبادلة قد تبدو قاسية أحياناً، لكنها لا تستطيع أن تحجب حقيقة مفادها أن ثمة انفراج ـ أمريكي إيراني ـ قد تحقق وهو في طريقه إلى توسيع نوافذ الانفراج.

وفي ظل هذه الأجواء نفسها، وعلى نحو لم تكن تتوقعه واشنطن، تبدو الحكومة الإسرائيلية الطرف الأكثر إرباكاً بالنسبة لواشنطن، والطرف الذي يسبب لها الحرج بالقياس إلى مستوى التحالف والتنسيق بين واشنطن وتل أبيب، وبالقياس إلى إصرار الولايات المتحدة على تكرار موشحها بالتزامها الدائم بأمن إسرائيل ومصالحها بوصفها حليفاً استراتيجياً في المنطقة!.

وجه الحرج يكمن في التصريحات المتتالية لمكونات الخلطة السياسية التي نتجت عنها الحكومة الإسرائيلية الحالية، ابتداءً من تصريحات رئيس الحكومة مروراً بوزير خارجيتها وليس انتهاءً بآخر تصريحات وزير حربها إيهود باراك "المعتدل!!" الذي لم يترك باباً مفتوحاً لعتب قد يلقاه من شريكه المتطرف ليبرمان، حيث باغته كما باغت العالم والولايات المتحدة بما لم تستطع قريحة ليبرمان أن تجود به، حينما صرح أن المطلوب من تل أبيب تأجيل موضوع هضبة الجولان السورية المحتلة إلى نهايات المفاوضات!!.. بمعنى أنها ليست مادة للتفاوض، الأمر الذي من شأنه ـ وببساطة ـ أن يعيد كل شيء إلى ما قبل المربع الأول، وهذا ما يدعو إلى طرح أكثر من سؤال: على ماذا يكون التفاوض إذاً؟.. وما الذي يمكن أن يبقى من أي حديث عن السلام؟.. وكيف يمكن لإدارة أوباما "الملتزمة بإسرائيل والمنفتحة على العالم و.. الشرق الأوسط!!" أن تتعامل مع هذا الواقع؟.. وما الذي يمكن أن تقدمه المبادرة العربية "الميتة سريرياً" باعتبارها إصرار عربي "درامي" على إظهار اليد الممدودة والمفتوحة منذ سنوات "على المجهول طبعاً!!"؟.. والأهم من هذا كله، بماذا يمكن أن تنفع سياسة "النيات الحسنة" كعنوان للمرحلة الحالية إلا فيما يكرس لأمرين اثنين:

الأول: القفز فوق المعطى السياسي الراهن بكل تعقيداته للوصول ـ نظرياً ـ إلى الأحلام الوردية التي يمكن نسجها وفق تصورات لحقبة ما بعد التسوية!.

الثاني: تشتيت وتضييع ملامح الخيار المقاوم الذي أثبت أنه السلاح الأمضى والأنجع في مواجهة المنطق السياسي الدولي المفتقد إلى أدنى درجات العدل والواقعية، وفي مواجهة الخشونة والفجور الإسرائيليين.

الخيار المقاوم، بوصفه خيار شعبي واجتماعي وثقافي، شكّل ـ وسيظل ـ رافعة للخيار السياسي الممانع والمقاوم سياسياً أيضاً، بصرف النظر عما يمكن أن يقدمه خيار "الأيادي البيضاء" الممدودة إلى ما شاء الله، وبمعزل عن خيار "النيات الصافية و..الحسنة" التي لم تُنتج، مثلاً، وعلى مدى سنوات سوى "مبادرة عربية" رافقتها محاولات معلنة أحياناً ومضمرة أحياناً أخرى لتصفية وتنحية خيار المقاومة!!.