كلما أطل برأسه الخامس عشر من أيار، قفز معه إلى واجهة الذاكرة شريط طويل عريض من الأحداث والتحولات والمتغيرات التي امتلأت بها السنوات الواحدة والستون الماضية.. وأطل معهما السؤال ـ التمني: ماذا لو استطاع أحد ـ من أصحاب القرار طبعاً ـ في العام 1948 وما قبله التنبؤ والاستشراف وقراءة الأحداث منذ ما قبل النكبة وحتى يومنا هذا؟.. ماذا لو أن أحداً آنذاك أطلق صيحة تحذيرية: أيها العرب، بعد ستين عاماً من الآن ستكون مليئة بالنكسات والتراجعات و "المبادرات".. بعد ستين عاماً من الحروب والدمار والدماء، ستعودون إلى المربع الأول، وحتى إلى ما قبله، لأن هناك "دولة يهودية" ستنشأ في المنطقة؟!..

لو أن أحداً تنبأ بهذا، لعرف الجميع أننا سنعود إلى كذبة أطلقت أيام النكبة واسمها القرار 181 سنعود إليها وكأنها المبتدى والمنتهى.. وأملنا ورجاؤنا الأخير!!.. هذه الكذبة التي تضرب بعرض الحائط منطق الجغرافيا والتاريخ والثقافة، ولكنها تحتفظ لنفسها بـ "شرف" عشق "الواقعية السياسية"!!.. والأخطر من هذا كله، أنها تختزل فلسطين التاريخية ـ من البحر إلى النهر ـ لتجعلها مجرد مساحة جغرافية وبشرية بلا ملامح ولا طعم ولا لون، وتفصّل قياساتها بما يتلاءم مع الحدث السياسي ومتغيراته!!. وبما يتناسب مع تلك "الواقعية السياسية" البغيضة التي نقلت فلسطين ـ كل فلسطين ـ من الحيّز المحسوس إلى مساحات الحلم والتصورات الذهنية!!.

بعد 61 عاماً على النكبة، يعود قرار التقسيم ليطل برأسه بقوة هذه المرة كحل إنقاذي يمكن له أن يضع "حداً للنزاع في الشرق الأوسط" ويكرس "إسرائيل كدولة يهودية" تحظى بمباركة ـ وهنا المهزلة ـ الغرب الديمقراطي العلماني!!.

المختلف في إطلالة القرار اليوم أنه جاء على هيئة صورة حداثوية معاصرة معولمة سياسياً ومحصنة بـ "الواقعية" التي يوجزها ويعبّر عنها خير تعبير حل الدولتين "الأكثر واقعية!!".. هو حل "عملي وواقعي" يتم طرحه وتسويقه اليوم، ولكن على قاعدة الشروط الجزائية، حيث أنه يشترط سلفاً القبول بالمعادلة التالية: أيّ محاولة للبحث عن معنى وجود الآخرين في الشرق الأوسط وخصوصاً في محيط "الدولة اليهودية" هي رهن باستمرار وجود وبقاء "إسرائيل"!!.

أكثر من هذا، فإن وجود هذه الـ "إسرائيل" كشرط أساسي لوجود الآخرين لا يلغي ولا يغيّب، بأي حال من الأحوال، منطق القوة "التأديبية" والصلف الحاضرين دائماً لـ "قصقصة" أجنحة كل من تسوّل له نفسه أن يحلّق ويغرد خارج السرب السياسي الدولي كي يحلم ـ مجرد الحلم ـ بفلسطين بمعناها التاريخي والثقافي والجغرافي والاجتماعي..

المعادلة تبدو أكثر من معقّدة ويبدو أنه من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، الجمع بين الذين ما تزال فلسطين محفورة في ذاكرتهم "مع 15 أيار أو من دونه" وبين عشاق "الواقعية السياسية" الذين يبحثون عن وجودهم على إيقاع، وفي ظل، "الوجود الإسرائيلي"!.

وإلى أن تتوافر إمكانية حل هذه المعادلة المستحيلة ـ والأرجح أنها لن تتوافر ـ فإن فلسطين ستظل في ذاكرة الحالمين بها، وهم كثر.. فلسطين ستظل وجوداً بكل المعاني طال الزمن أو قصر.. الإيمان بهذا واسع وأكيد وراسخ عند من يوصفون بـ "الحالمين".

فلسطين، بهذا المعنى، هي حقيقة حتى ولو انهالت على المؤمنين بها أنواع مختلفة من القرارات ومن التهم ـ تفصيل وجاهز ـ حسب مقتضيات المرحلة و.. حسب مقتضيات ومصالح وجود "الدولة اليهودية".. نعم، هي حقيقة على الرغم "الواقع السياسي الدولي"، وعلى الرغم مما يُطلق على المؤمنين بها من شائعات تبتدئ بـ "الرومانسية السياسية الحالمة" وتمرّ بـ "اللا منطقية" والمؤكد أنها لا تنتهي بتهمة "اللا واقعية السياسية"!!.