تتشابه رواية النكبة الفلسطينية بين رواتها إلى درجة كبيرة قد تصل أحيانا إلى التطابق في خطوطها العريضة. المجرم واحد والضحية واحدة والأسلوب يتكرر من قرية لأخرى مجازر وقتل واقتلاع وصولا إلى إفراغ مناطق شاسعة من أصحابها الفلسطينيين وإحلال قطعان المستوطنين القادمين من شتى أرجاء العالم.

مجزرة عرب المواسي

يروي الحاج أحمد شهاب ـ أبو صالح / 80 عاما / شهادته للنكبة وهو الشاب الذي لا يزال يذكر كل تفصيل فيها ورواها لأبنائه ويرويها اليوم لأحفاده. هجر أبو صالح مع عائلته الكبيرة من قرية عرب المواسي ـ قضاء طبريا باستخدام أفظع الأساليب الإرهابية . يقول الرحل أخذت العصابات الصهيونية نحو 23 شابا من قريتنا إلى بلدة مجاورة تبعد حوالي كيلو مترين . ويضيف لا زلت أذكر أنهم أخذوا ثلاثة أشقاء قبل أن تتدخل أمهم التي لم تكن تعلم إلى أين يأخذونهم طالبة إرجاع الصغير بينهم كونهم ثلاثة. ويتابع أعادوا الثالث بالفعل وحملوا الجميع عبر شاحنة كبيرة. ويضيف أبو صالح لم يمض أكثر من نصف ساعة حتى سمعنا إطلاق نار كثيف حيث تبين أنه جرت تصفيتهم بعد تعصيب أعلينهم وصفهم نسقا واحدا على جدار إحدى المباني القديمة.

المجزرة الموثقة في تاريخ النكبة الفلسطينية أجبرت أهل القرية والقرى المجاورة على الرحيل . لم يكن باليد حيلة كما يقول أبو صالح ، حمل بعض الشباب البنادق البدائية لكنها لم تستطع فعل الكثير في مواجهة عصابات مدربة ومجهزة بأحدث الأعتدة التي زودها بهم الانكليز . ويضيف كنت ممن شاهد جيش الإنقاذ العربي لكنه للأسف لم يفعل شيئا، كان كابوسا رهيبا ضاغطا على الفلسطينيين الذي عاشوا مسرحية سرقة أرضهم وبيوتهم.

أبو صالح يعيش اليوم في مخيم السبينة للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشقالسنوات.0 ألف لاجئ من أبناء وطنه . العودة إلى القرية لا تزال تراود الرجل حتى اللحظة رغم مرور كل تلك السنوات . ويقول لم ننس أٍضنا ورثنا هذا الإيمان لأبنائنا وأحفادنا وهذا مهم جدا في العمل المقاوم الذي لا ينتهي اليوم ولا بعشرات السنيين .

ويضيف أبو صالح أولادي جميعا يعرفون أرضهم رغم أنهم لم يروها، يعرفونها من توصيفي لها وزرع محبتها في قلوبهم وأنفسهم. ويتابع الرجل إن أحدا لن يساعدنا باسترجاع أرضنا إذا لم نفعل نحن شيئا لخدمة قضيتنا ومواجهة عدونا.

لا بديل عن العودة

محمود الحسن أبو عماد / 70 عاما / يروي قصة مشابهة رغم اختلاف المكان الجغرافي. ويشرح الرجل الذي هجرته العصابات الصهيونية من إجزم ـ قضاء حيفا عن البريطانيين قصفوا القرية من البحر والجو فيما تولت العصابات الصهيونية تنفيذ إرهاب الفلسطينيين . ويضيف استمر القتال حوالي 3 أشهر بعد سقوط حيفا ويتابع قريتنا تبعد مسير ليلة كاملة عن بلدة عارة وبعد تلك الفترة لم تعد هناك إمكانية للمقاومة لا سلاح ولا ذخيرة والجيوش العربية لم تساعد بشيء . ويضيف انه عائلته هاجرت إلى جنين في الضفة الغربية قبل أن تهاجر إلى العراق وبعدها الأردن وبعد أحداث في أيلول 1970 جاءت إلى سورية.

عاشت العائلة حياة قاسية بالترحال والبحث عن حياة كريمة وتمكنت من تنشئة أبنائها المقاومة والتمسك بكل ذرة من فلسطين. ويتابع الرجل الذي يعيش اليوم في مخيم خان الشيح غرب دمشق أن أي طفل فلسطيني يحلم بالعودة إلى وطنه كل يوم. ويضيف إن هذا الإيمان بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة مضيفا إننا نرد على المقولات الإسرائيلية التي راهنت على ان الكبار يموتون والصغار ينسون . ويضيف أنهم لو طوبوا لنا العالم كله دون فلسطين لا نقبل إلا بوطننا وإن لم يعد اليوم سيعود غدا. لقد حملنا السلاح منذ ثورة 1936 وقدمنا عشرات آلاف الشهداء والمسيرة مستمرة حتى اللحظة ويتوارثها جيل من الجيل السابق حتى عودة فلسطين كل فلسطين .

الحاجة أم أحمد / 75 عاما / تنتمي للشريحة ذاتها. لا تزال تذكر كيف كان اليهود يحرقون حقولهم قرب بحيرة طبريا . لم يكن والدها يريد المغادرة إلى أن بدأ الطيران الإنكليزي يقصف القرى تمهيدا لدخول العصابات إليها لإكمال المذابح. وتضيف البقاء كان يعني الموت في المجازر شبه اليومية. غادرت أم أحمد وكانت طفلة في حينها مع العائلة إلى شمال فلسطين ومنها إلى بنت جبيل في لبنان لتبدأ رحلة قاسية لا تزال تعيشها حتى اليوم وهي المقيمة في مخيم اليرموك جنوب دمشق .

تعترف أم احمد بأن أكبر خطأ ارتكبه أهلها كان الرحيل. وتوضح لو كنت واعية لما خرجت حتى لو قتلوني لأن الرحلة الطويلة التي عشناها بعد ذلك ليست أسهل من الموت.

تعيش أم أحمد وحيدة اليوم بعد وفاة زوجها قبل نحو عشر سنوات وانشغال أبنائها وبناتها بأسرهم. لم تغب فلسطين عن أي واحد من هؤلاء كما تؤكد رغم مصاعب الحياة اليومية والانشغال بتأمين لقمة العيش . فلسطين هي أمنا جميعا وسنرجع يوما إلى حضنها مهما كلف الأمر.

طريق المقاومة

التمسك بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد يلازم السواد الأعظم من الأجيال الشابة من اللاجئين الفلسطينيين رغم عدم معرفتهم بتلك الأرض سوى عبر الأهل. ويقول أنس شحادة / 23 عاما / إن التمسك بالعودة جزء من عقيدته وإيمانه بهذه الحياة . ويضيف هناك شرذمة من شعبنا تريد التخلي عن هذا الحق لكنهم لا يمثلون فلسطينيي الشتات. ويتابع أنس وهو من قرية العبسية ـ قضاء طبريا إن السبيل الوحيد للعودة يأتي عبر المقاومة بكل أشكالها السياسية والثقافية والعسكرية مؤكدا أن هذا الأسلوب جربته شعوب الأرض ونالت عبره حريتها واستعادت حقوقها .

بدوره ماهر شاوبش / 27 عاما / يؤكد أن حق العودة لا يسقط بالتقادم . ويضيف الناشط في لجان حق العودة سيبقى هذا الحق العقبة الكأداء في وجه المشروع الصهيوني مضيفا إن الآباء والأجداد مارسوا الحق بالفعل عبر تمسكهم بأرضهم ورفضهم لأي تنازلات وصيغ التعويض المشبوهة .

وتابع ماهر ـ وهو من قرية غوار أبو شوشة في قضاء طبريا ـ إن الأجيال الشابة أكثر تمسكا وصلابة من الأجداد والآباء رغم أنها لم تر فلسطين معللا ذلك بمناخ المقاومة الذي يرعب الإسرائيليين .