ذاكرتنا السياسية أضعف من أن تصبح مساحة جديدة، وربما عمقنا الثقافي يكسر فينا القدرة على استحضار الجديد، فعندما غادرت غزة الشاشات رحلت عنا أيضا أو على الأقل أصبحت لاجئة في المحطات الدولية يتمسك بها "الناشطون"، أو تحرك ما بقي في العالم من ذاكرة إنسانية، وهي تبحث أيضا في مساحات السياسة عن صورة واحدة تجعل منها قلبا قادرا على استرجاع ما كان.

قوافل المحبة إلى غزة أصبحت لونا يقتحم الجميع ليشكل ملامح لوحة لا ترتبط فقط بإعلام نسيها، أو تجاهل نوعية الحدث الذي يأتي ويغادر، أو ينطلق مع قطار الموت، ثم ينتهي بالإفقار والجوع، وبالقهر الذي يسكن العيون، فتأتي القوافل ربما لتجعل الأمل مسرحا قادرا على إخصاب الحياة من جديد، ففي القحط العربي هناك رياح باردة تشعرنا أننا لم نعد قادرين على دفء الحب، ولا على معانقة جرحنا إلى الأبد، فتعيدنا القوافل للون آخر ربما علينا إبرام علاقة عشق معه.

نستودع الربيع هذه الذاكرة التي سقطت منها غزة، كما سقطت من قبلها كل المدن التي شكل غيابها نكبتنا، ونستحضر مع الأفق القادم من الغرب عقم السياسة وقدرتها على أن تكون "خنثى" تجعل الجميع ينظرون إليها دون رغبة أو شهوة، ودون أمل في أن تزهر وليدا جديدا، ففي كل المسافات التي تبعناها زدنا من حالة الفوضى والتخمين والخروج من جنة المغامرة والجرأة، ودخلنا إلى "العماء" أو إلى حالة البدء التي لا تحمل معها سوى حالات من عدم التمييز بين الناس أو الحجارة، وبين الشجرة الواقفة أمامنا والحواجز التي قطعت حرياتنا قبل أن تجعل الوطن مجرد "تعويذة" نستخدمها في صلواتنا.

قصة غزة مع قوافل الحب سيتعرف عليها الغرباء، بينما نقف مذهولين من مجتمعات تدفع أبنائها باتجاهنا، بينما نرفع في وجوههم "سياسة" القحط، وغبار المبادرات أو جحيم "التسوية"، وننسى أن الزمن الذي يدوس علينا يعيد من جديد روايات يهودية "مطعمة" بقصص داحس والغبراء وبقصة عنترة وبطولات الزير سالم، لكن الحاضر يجسدهم أشخاصا قادرين على التخفي ما بين السياسة واللصوصية، فيسرقون ذاكرتنا ليلا، ويمارسون "الحنكة" صباحا، وفي النهاية يتركوننا على محبة الآخرين لنا.

غزة لم تعد شأنا يخصنا... هي ذاكرة الإنسانية بعد أن حفرنا على عقولنا خندقا يجعل منا تائهين في زمن العولمة وغاضبين دونما فعل، فنرتجل الكلمات أو نقف عند حدود الواقعية بينما تغادرنا فلسطين إلى مساحات لم تعد ملكا لنا.