لحزيران صوت يوقظني، فأحاول الهرب من "إيقاع" المناورات العسكرية، أو رميها بـ"مبادرات" تعريني وتجعلني واقفة على بداية الذكرى، فأنتقل بين الأيام وكأنها لم تكن، أو سارت على فكرنا فتركتنا نبتلع ألوان الاستباحة ثم نتوقف على فوضى "الشرعية الدولية"، فعندما يستيقظ الحق في داخلي أرى الاحتلال على شاكلة مختلفة، وأشاهد طيف الهوية المتنقل ما بين السلام والمقاومة، وبين البحث عن "دولتين" أو رؤية المجازر التي لم تتوقف...

حزيران صورة متنقلة عشت ملامحها القاسية بعد أن انتهت الحروب أو ظهرت القرارات، فتسلقت على "الانسحاب الكامل" وتدحرجت فوق التطبيع، ثم اكتشفت أنني لم أعد قادرة على التواري وراء طيف الكلمات التي كونت قاموسا لـ"التسوية"، وعرفت أن كل السياسة تقف على كتفي وأن جسدي احترق قبل أن أستطيع البوح عن نفسي، فكان حزيران اللوحة التي سأحملها رغم أنني لم أهزم، وهو الكتاب الذي سأقف فيه على "هوامش النكسة" التي لم أشهدها، لكنني عشت فصولها السابقة فكانت بيروت محطة إضافية لي كي أتنقل فيها...

سأكتب عن حزيران دهرا... لأنني لا أعرف الهزيمة.. سأخط حروفا عن "السياسة" التي شكلتني على هيئة "عاهرة" وعن السلام الذي اغتصبني في لحظات الانتصار، أو التسوية التي قدمتنا "محاصصة" للجميع يتناوبون على استباحة الوطن أو الجسد أو حتى رغبتي لأبحث عن أرضي دائما... فحزيران علمني أن معجم "السلام العربي" يفوح بالنفط وبعبق الصحراء، وبعرق البهائم التائهة ما بين الصحراء الكبرى والربع الخالي، وعلمني أن "كتاتيب" الأمم المتحدة خرجت أكاديميين في صياغة القرارات التي توزع وجهي كغنيمة، وتهدر ابتسامتي فدية لأطفال لم يعرفوا سوى اللون الآحمر.

ولحزيران صوت أجش يأتي من بيروت والقدس وغزة، وينتشر في شوارع دمشق وعمان، فتصبح الحرب ضبابا يكسر كل الأمل القادم، ويمحو ألوانا كنا نكتبها على جدران بيروت ((لن يمروا)).. لكنهم مروا بالفعل وتركوا بصماتهم لأجيال لم تولد بعد، وبعد ربع قرن فشلوا بالمرور، رغم انهم حصدوا الأطفال، واقتلعوا منا الرغبة في البحث من جديد عن أرضنا، فانتشرنا على مساحة الخلافات، فمروا من فوق السياسة التي أصبحت ملاك موت يخطف الانتصارات...

حزيران يأتي بشكل مسرع... حزيران يمحو الكثير أمامي، لكنني على الأقل أحاول إنعاش الذاكرة... أحاول أن أبقى أكثر من لاجئة وأقل من مقاومة... أبقى صورة لأطفال ينتعشون كل ربيع فيتذكرون أن الدماء هي ما تبقى، وأن اللحم الحي قادر على تحويل مسار الحدث....