القصة بذاتها مغرية وتدفع للنبش أو البحث عن كل الاحتمالات التي حكمت مرحلة خاصة، فإعدام انطون سعادة لم يكن حدثا مجردا عن أزمة إقليمية بدأت بقرار التقسيم ثم الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى وأخيرا "زمن الانقلابات" في سورية، فقضية الحزب السوري القومي الاجتماعي في تلك المرحلة تحمل الكثير من العناصر "الدرامية" التي بنى عليها "المخيال الاجتماعي" دافعا إضافيا لنبش الوثائق، ولكن مشكلة هذا التوثيق أنه يصبح هما خارجا عن سياق التحول الاجتماعي أو بناء القومية.

ربما علينا في هذه اللحظة أن نتعامل مع عمليات التقاطع في مسألة "بناء القومية"، أو "بناء الدولة" بعد أن أصبحت عملية "رحيل سعادة" مسألة لا تتعلق "بشأن" حزبي لأنها مرتبطة بعملية التفكير داخل "الحداثة" بذاتها، ورغم أن محاولات تفكيك "المشروع القومي" على اختلاف توجهاته مازالت محصورة بجهود الأفراد، لكن الواضح أن الأزمات التي تعاني منها دول المنطقة، ربما تشكل دافعا نحو قراءة مختلفة لنظريات القومية التي ظهرت منذ بداية القرن الماضي.

عمليا فإننا نسير ضمن "مجال سياسي" قادر على استيعاب الأحزاب التي بمجملها ظهرت قبل أكثر من نصف قرن، وتشكلت آليات عملها الحقيقية في إطار التنافس السياسي، ورغم ان الحزب السوري القومي الاجتماعي يتحدث عن نفسه كتشكيل لا يتعامل مع السياسة بشكلها التقليدي، لكن نظريته الأساسية لم تشهد فورة فكرية منذ خمسينيات القرن الماضي، ووسط تسارع الحدث السياسي في المنطقة كان التفكير القومي يذهب باتجاه الموائمة بين حركة الواقع والمنهج الفكري الذي ظهر عليه الحزب، وربما ينطبق هذا الأمر على مجمل الحركة الفكرية التي تحوم كتيارات إضافية حول الأحزاب، دون أن تتحرر من عملية "الصدام السياسي مع "الورثة" للفكر القومي.

هذه الأزمة ظهرت بوضوح مع تحول السياسة باتجاه جديد منذ تسعينيات القرن الماضي، وبدأت بوادر أزمة تظهر على مساحة علاقة الأحزاب بالمجتمع، والواضح أن التيار الاجتماعي الفاعل لم يعد "ملكا" للأحزاب، وتجلى هذا الأمر في فلسطين على وجه الخصوص وفي لبنان أيضا، وهو أعاد إنتاج "أزمة" خاصة متعلقة بتيارات كانت قادرة على الدخول في صلب معادلة الصراع الإقليمي رغم أن فكرها مستمد بكامله من التراث.

المشكلة اليوم تبدو في "الصورة الذهنية" لتيارات المقاومة، التي خلقت بالفعل افتراقا واضحا بين التفكير القومي المحشور داخل هيكلية حزبية تنتمي للنصف الأول من القرن الماضي، والمبادرة على الساحة الإقليمية التي تملكها تيارات أثبتت أنها قادرة على الصراع مع العدو لكنها لا تملك هذا "الجامع القومي" الذي مازلنا نعتبره شرطا لنهوض المجتمع وقدرته على ممارسة سيادته... هي أزمة ربما تحتاج لإعادة قراءة ممن يعتبرون أن القومية يتم بناؤها وليست مجرد عمل في ساحة التنافس السياسي.