موسكو ما تزال تبحث عن مكان لـ"مؤتمرها" الذي ظهر كفكرة مرافقة لـ"مؤتمر أنابوليس"، وجولة سلطانوف الأخيرة في المنطقة تؤكد أن الموضوع مازال قيد البحث بعد سنتين تقريبا على طرحه، لكن الظروف التي تحكمه اليوم تبدو مختلفة، فهو "ورقة" روسية توحي "بدور" خاص ربما لن يكون بحجم الأدوار السابقة لموسكو، لكنه على الأقل حضور على ساحة أزمات الشرق الأوسط.

ما يهم اليوم "رؤية السلام" في إطار ما تريد روسيا ان تلعبه، وليس فقط ظهور أدوار جديدة في عملية التسوية، فاتجاهات السلام في الشرق الأوسط لم تظهر بشكل تلقائي، أو نتيجة البحث عن "عدل" سياسي، فحتى قرارات "الشرعية الدولية" كانت نتيجة انكسار سياسي على الجانب العربي بدء بقرار التقسيم وانتهاء بمؤتمر مدريد. وربما لهذا السبب لم تكن مقولة السلام تحمل دفعا اجتماعيا، فهي مأزومة بصور اللاجئين أو النازحين، أو حتى الانكسارات السياسية مثل زيارة السادات إلى القدس ثم اغتياله في ذكرى حرب تشرين.

عمليا فإن الاتجاه القوي نحو السلام بدا واضحا مع بداية انهيار الاتحاد السوفياتي ثم حرب تحرير الكويت، وظهرت مجموعة من الإجراءات السياسية كانت بحد ذاتها مؤشرا على الانهيار الاستراتيجي للمنطقة، وخروج العراق من المعادلة الإقليمية. كما ان الانتقال نحو الحديث عن "السلام" تم تأسيسه على أنقاض انهيار أحلام التنمية والتغيير الاجتماعي و"حرب التحرير".

وكان من المتوقع أن يؤدي الانهيار التراجيدي لأشكال السلام نتيجة الانتفاضة الثانية إلى بحث جديد، أو آفاق تستطيع اختراق هذه المعادلة الصعبة بين تحقيق السلام دون خلق مصالحة مع "الفكر التعصبي" للدولة العبرية. وعلى امتداد العامين الأولين من الانتفاضة أصبحت ثقافتنا تواجه حالة فريدة نتيجة الوضع في الأراضي الفلسطينية، وبات واضحا أن الشكل الاجتماعي في فلسطين يمر بمرحلة تحول قادرة على خلق آفاق جديدة ليست بعيدة عن "السلام" ولكنها ترسمه وفق إطار جديد. وتجربة الانتفاضة التي انتقلت من المواجهة الاجتماعية "المدنية"، إلى حالة عسكرية هزت "إسرائيل" واجهت محنتها الأولى بعد أحداث 11 أيلول، لكن يبدو أن العمل العسكري اعتبر نفسه بمعزل عما جرى في الولايات المتحدة، مما أدى عمليا لقانون "الاستباحة" الذي مارسه شارون، واعتبر شرعيا لأنه جزء من مكافحة الحركات "الإرهابية" التي تعتمد أسلوب "القاعدة". هذا الأسلوب يتم تكريسه اليوم داخل "الدوائر" السياسية التي تحاول معالجة المشكلة في غزة وفق قانون محاربة الإرهاب، وذلك في محاولة لإعادة إنتاج السلام على نفس القاعدة المأزومة.

النشاط الروسي اليوم حتى ولو بدا محدودا لكنه يكسر قاعدة استمرت لأكثر من عقدين وهو في نفس الوقت لن يكون "وريث" الراعي الثاني للسلام الذي غاب مع انهيار الاتحاد السوفياتي، فهو سيتحرك على تشابك الأزمات في الشرق الأوسط وربما سيدخل من خارج إطار الصراع، لكن كافة الاحتمالات ستبقى معلقة على طبيعة التعامل العربي مع هذا الدور، أو ربما على القناعة بأن تفكيك الأزمات لا يمكن أن يبدأ بمبادرات خارجية بل بتغيير "معادلة الانكسار" التي أنتجت عمليا "حلول السلام".