دون شروط... وربما كأكبر خطأ في مسيرة العلاقات الإنسانية، تظهر الصورة القادرة على الاستبعاد أو النبذ، أو اللجوء لحكم القيم التراثية، فنحن اعتدنا على الثنائيات، ونحن لا نملك سوى الجنة والنار، والكفر والإيمان، ولا نملك سوى العبودية أو التفلت من إطار القيم، فننتقل على إيقاع واحد من السياسة للثقافة، ومن القدرة على التعبير عن النفس إلى مساحة الاستزلام والغرق في مأساوية التوقف عن حدود ما هو مسبق، أما الباقي فيدخل في إطار التكفير.

المجتمع الغارق في الثنائيات لا مجال فيه للتقلبات الإنسانية، وليس هناك مساحة للعواطف ولا حتى للتفكير، فالأبيض والأسود يحاصر الجميع، ولكل لون قيمه التي تفرض نفسها على الآخرين في أكبر عملية فرز داخل المجتمعات، وداخل التناقض الصارخ سيصبح الإبداع تحديا اجتماعيا بدلا من أن يكون معركة فكرية، ثم نغرق في عمليا "الاستبعاد" التي لا تعترف بالآخر إلا إذا كان وفق الصورة النمطية التي تآلفنا معها، وأصبحت جزء من الضبابية التي تلف وجوهنا.

يستبعدنا المجتمع أو نستبعده... نقف على حدود قوانينه الصارمة في استنساخ الأشخاص، وفي قبول ما هو مألوف لديه، فنقف دون حدود الإبداع وربما نبحث عن وجوهنا التي لوثتها عتمة التقليد، فنجد أنفسنا خارج محافل اعتادت أن تنعقد كي تقيم الأشخاص، ونتوقف عند جلسات الاستماع لمجموعات أو أحزاب أو حتى مؤسسات تجتر نفسها وفسادها، وتبتدع كل يوم طريقة لمحاسبة الخارجين عن "جادة الصواب"، أو لمن "خرج عن الطاعة وفارق الجماعة"، لكن البقية لن تكون "مات ميتة جاهلية"، بل ستصبح جزء من قانون القبيلة الذي اعتاد إخراج "المارقين" من مضاربه، فهل نفخر لخروجنا من مضارب البدو واصفرار حياتهم، ورتابة الأحداث من حولهم؟!!!

هي بالفعل مضارب لكنها ترتسم كمساحات اجتماعية داخل المدن، فتتحلق حول المسلسلات التركية، أو تكتفي بالدردشة في المقاهي والمطاعم التي تخنق الثقافة والمثقفين، فهذه المقاهي المستنسخة من تقاليد أوروبية احتفظت بصورة "المقهى الدمشقي" مع وجود أكثر من حكواتي، يتنقل ما بين الحاضرين ليتحدث عن النوادر الثقافية، وعن البطولات الإعلامية، أو حتى عن عنتريات القلم..... فهل يختلف المقهى عن الحلقات التراثية؟!! وهل تباين صٌناع الثقافة عن "مجتري" التراث!!!

على مساحة المجتمع المسطح يصبح "البريق" خوفا، وحتى "الرغبة في الاعتزال" نوعا من التحدي للجميع، وتغدو التقلبات الإنسانية نوعا من الشذوذ وحرية المرأة انتقال من الوقار إلى الابتذال... وفي المجتمع الذي يباهي بعلمانيته وبتخلفه في نفس الوقت سينتقل من الوطنية للخيانة دون أسئلة أو مقدمات، ومن التراث إلى الحرية أو بالعكس دون وجل، وتصبح النخب من أعتى التراثيين، بينما يقف الناس العاديون الذين يؤمنون بتنوع الحياة خارج الضوء... فهم لا يستطيعون اجترار "الثنائيات" التي حفرت على ثقافة القصدير ومساحات الملح التي يعبث فيها محترفو التنظير لعودة التراث من نافذة الحداثة.....