كل التحليلات حول التصعيد في العراق ممكنة، فالاحتمالات لم تغلق بعد ومسألة "التوافق" بعد الاحتلال ستبقى مفتوحة لزمن طويل، لكن انعكاس هذه الاحتمالات على الجوار العراقي، وبالأخص سورية، ربما يحمل قراءات متعددة كلها تصب في نقطة واحدة مرتبطة بتعامل "واشنطن" مع دمشق، فالأزمة بدأت من "واشنطن" ومن الصعب التفكير بـ"نهاية" لها دون البحث عن "آفاق أمريكية" لحلها.

ومن الطبيعي أن تصبح التفجيرات في العراق مثار بحث في هذه العلاقة لسببين: الأول أن الكثير من التسريبات تحدثت عن أن زيارة فريدريك هوف" الأخيرة لسورية حملت معها "قائمة أسماء" من المطلوبين، أو المطلوب إبعادهم عن سورية، وذلك قبل أن تبدأ الحملة العراقية الأخيرة ضد سورية.

والثاني أن مباحثات هوف التي وصفتها بعض المصادر بـ"الأمنية" أثارت حفيظة أطراف عراقية سارعت للحديث عن أن الموضوع الأمني العراقي يجب أن يبحث من العراق وليس عبر طرف ثالث، وبهذه الصورة فإن الملف العراقي ليس هو فقط أهم محاور الحوار السوري مع واشنطن، بل أيضا مفتاح الأزمة الحالية التي يمكن اعتبارها أزمة في العلاقات الإقليمية أكثر من كونها خلافا ما بين العراق وسورية.

وعندما يوجه البعض اتهامات للولايات المتحدة بأنها وراء ما حدث بين دمشق وبغداد، فإنه ينطلق ربما من تعثر الحوار أو من الطريقة التي عالجت بها دمشق هذا الموضوع مبقية على علاقات قوية مع "إيران"، بينما الغاية الأساسية للحوار من الجانب الأمريكي هو كسر هذا التحالف، لكن توزيع الاتهامات سيزيد من غموض الموقف وهو في النهاية محاولة لخلق منطقة رمادية تفصل ما حدث عن جملة التطورات الجارية على المستوى الإقليمي، وربما لن يفيد اليوم الحديث عن من يقف وراء التفجيرات بل النظر إلى تأثيرات ما حدث على إستراتيجية الرئيس أمريكي باراك أوباما في الشرق الأوسط.

عند النظر إلى التحرك الأمريكي فإننا سنقف أمام "نوايا" فقط وراء الحراك السياسي، لكن هذه النوايا كانت كفيلة بإحداث ثلاث أمور أساسية:

الأول: هو تخفيض التصعيد، وهي غاية أساسية رغم أن الولايات المتحدة لم تقدم خطة لهذا الأمر، وكان يكفي أن توقف الضغط وتباشر بالحوار حتى تظهر بوادر "هدوء" على مختلف الجبهات.

الثاني: بغض النظر عن الروايات التي تتحدث عن تدخل "أجنبي" فيما حدث داخل إيران بعد الانتخابات الأمريكية، فإن الحديث عن واقع إقليمي جديد، وذلك بعد سنوات من الضغوط والحصار والاستنفار السياسي تجاه الملف النووي لإيران، كان كفيلا بإيجاد مقدمات طبيعية لظهور تيار، على صغر حجمه، داخل النخب السياسية الإيرانية قادر على رفع شعارات تجاه سياسات نجاد. لكن هذا الأمر ترافق مع "أخبار" حول توافق "إسرائيلي" مع بعض الدول العربية حول الخطر الإيراني. وهذا يعني على الأقل محاولة لإعادة النظر بالنسبة لإيران بدورها الإقليمي من جديد.

الثالث: هو الحوار الأمريكي مع دمشق، وعنوانه الأساسي ربما يكون "التسوية" لكن تفاصيله تدخل في صلب "الدور السوري"، وحتى لو بقيت بنوده الكثيرة غير معلنة لكن معضلة الولايات المتحدة مع دمشق هي في طبيعة دورها الذي لم تعد تريد له أن يتغير وفق قاعدة "تغيير السلوك"، بل أن ينسجم مع المرحلة الحالية التي من المفترض أن تحمل "انسحاب القوات الأمريكية" من العراق.

هذه التطورات كبحت على الأقل من الحركة الدبلوماسية لما كان يسمى "دول الاعتدال"، وأدخلها في مرحلة من الانتظار، رغم انها نشطت بشكل واضح بالتحركات غير المعلنة، وظهرت ملامح لمحاولات التأثير السياسي داخل الإدارة الأمريكية وذلك استباقا لأي قرار سياسي من الإدارة الأمريكية تجاه المنطقة.

في المقابل فإن دول جوار العراق كانت تتحرك بأسرع مما هو متوقع، فتركية وسورية وإيران استخدمت "هامش الانتظار" لتطوير العلاقات، فما حدث أن الشرق الأوسط بدأ يأخذ وضعا سياسيا قبل أن تتحرك الولايات المتحدة بشكل فعلي تجاهه عبر إجراءات أو خطط مباشرة، وهو ما جعل التداخلات كثيرة ليس من الولايات المتحدة بالضرورة، بل من مختلف الدول الأخرى التي تخوفت من انحسار أدوارها...

ما حدث بين العراق وسورية على المستوى الإقليمي ربما يكون نتيجة منطقية لعدم انتهاء "المعضلة السورية" بالنسبة للإدارة الأمريكية، دون أن يعني اتهاما بتورطها بما حدث ولكن على الأقل لأن "الغطاء الدولي" لم يكن متوفرا!!