الفسيفساء الإيديولوجية والسياسية العجيبة في الطيف الرسمي العراقي الحالي الذي أفرزه الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003 تثير الدهشة أحياناً، والشفقة أحياناً أخرى!!.. هي تستحق وعن جدارة أن يسجل لها أنها واحدة من عجائب الدنيا "السياسية" في القرن الحادي والعشرين!.

وبصرف النظر عن الأزمة الحالية المفتعلة ـ نعم المفتعلة ـ بين بغداد ودمشق، ثمة الكثير من المواقف السياسية العراقية الملتبسة حدّ التضارب والتناقض، منذ أن بدأت الحكومات العراقية بالتناسل والتوالد في مستشفى جيش الاحتلال الأمريكي وفي رعايته.. حال التناقض على ما هو عليه منذ أن أبصرت النور أول حكومة عراقية وصعدت تحت حراب ومدافع الدبابات الأمريكية الآتية لـ "نشر الديموقراطية والحرية" في "شرق أوسط" كان من المخطط له أن يكون "جديداً" وفق معايير ومقاييس الرئيس بوش الابن ووزيرة خارجيته كوندوليزا رايس!.

إلا أن ما كان مخططاً له لم يكتب له النجاح وهذا ما يعرفه القاصي والداني من السياسيين والمحللين والمراقبين، المتمرّسين منهم والمبتدئين على حد سواء.. وعلى الرغم من هذا تظل الحكومة العراقية وخليط فسيفسائها تعيش في المناخ القديم نفسه، ويطلق رئيسها التصريحات في ظل الأجواء العتيقة ذاتها، في حين أن الأحداث والمتغيرات في العام الماضي والحالي قد تجاوزتها، وفي مقدمتها التغيير في الخطاب السياسي الأمريكي تجاه المنطقة، ومن ورائه التغيير في الخطاب السياسي الأوروبي أيضاً.

تكلم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي كي يعبّر عن تمسكه بذلك الوهم ـ الصورة القديمة للمنطقة ويا ليته لم يتكلم.. توعّد دول جوار العراق بأنها "ستدفع الثمن غالياً" ويا ليته لم يتوعّد.. طالب بـ "مقاضاة الإرهابيين ومن يحتضنهم" وحبذا لو أنه لم يُطالب.. أصر على نقل الطلب العراقي ـ الذي لا يعبر عن إرادة شعبية عراقية بكل تأكيد ـ إلى الأمم المتحدة لإنشاء "لجنة تحقيق دولية لتقصي الحقائق ومحكمة لمقاضاة المتهمين بالإرهاب.. طبعاً تماشياً مع موضة المحاكم الدولية" ويا ليته لم يُصر!!.

هكذا تكلم.. المالكي، وحاول أن "يُكبّر الحجر" لعله يخفي حجم التناقضات ـ كي لا نقول التخبط ـ في طاقمه الحكومي، كمن يختبئ خلف إصبعه.. "تكبير الحجر" عن طريق الجعجعة والتضخيم والتهويل الإعلامي بات اليوم سياسة عتيقة ومستَهلَكة، وهذا ما لم يدركه حتى الساعة عدد لا بأس به من الساسة "المحدثين" العراقيين الأشقاء بكل تأكيد!.. "تكبير الحجر" لم ولن يوقف التفجيرات "الإرهابية" العمياء التي تحصد يومياً عشرات العراقيين الأبرياء، وتحرق الأخضر واليابس ـ هذا إن بقي أخضر في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي سوى المنطقة الخضراء!! ـ .

"تكبير الحجر" لن يعمي البصر والبصيرة عن حقيقة مفادها أن الخراب الحقيقي قد لحق بالعراق وبثرواته ومكانته ودوره وشعبه منذ أن وطئت أقدام جنود جيش الاحتلال الأمريكي أرضه، ومنذ أن صار هناك حاكماً مدنياً أمريكياً يحكم العراق على طريقة المندوب السامي، ومنذ أن صار العراق ساحة وميداناً للاقتتال الأعمى العبثي!!.

ببساطة، هذا ما يجب أن يدركه ويحفظه عن ظهر قلب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وبعض معاونيه من هواة "تكبير الحجر" ورفع سقف التهديد والوعيد الذي لا يعدو كونه جعجعة بلا طحين!.

ثم، ماذا يعني تهديد دول جوار العراق "بدفع الثمن غالياً"؟.. ومن هي دول الجوار المقصودة؟.. بالتأكيد ليس تركيا ولا الأردن ولا السعودية ولا الكويت، إنما سوريا وإيران.. ما هذا الغمز السياسي "الذكي" الذي لا تفيه كلمة تذاكي حقه؟!.. وما هذه التصريحات "اللمّاحة اللمّاعة"؟!..

المؤسف ـ الغريب أن المالكي يريد أن يكون ملكياً أكثر من الملك نفسه.. فمدير العمليات في وزارة داخليته والمتحدث الرسمي باسم الوزارة يكشف عن أن منفذي تفجيرات "الأربعاء الدامي" الذين ألقي القبض على بعضهم ينتمون إلى "تنظيم القاعدة ـ دولة العراق الإسلامية" والمالكي يصرّ على "تلبيس التهمة" لدول جوار العراق!!..

السؤال الطريف ـ المحزن الذي يطرح نفسه هنا: ماذا عن السبت والأحد والإثنين والثلاثاء و.. باقي أيام الأسبوع الدامية التي يشهدها العراق منذ بدء الاحتلال الأمريكي وحتى الساعة؟.. ألم تقع عيون المالكي إلا على أربعاء دامٍ واحد، في حين أن أيام العراق كلها دامية؟!.. لا شك في أن الأمر وإثارته بهذه الطريقة وفي هذا التوقيت يثير الريبة، سياسياً على أقل تقدير!!.

بكل أسف، هكذا تكلم.. المالكي، ويا ليته لم يتكلم، وترَك الكلام لـ "زرداشت" عراقي حكيم.. فالعراق، وعلى الرغم من كل الخراب الذي لحق به، ما يزال قادراً على إنجاب الحكماء!.