طبعا هناك الكثير من "التخبيصات" التي تلفت الانتباه في الصحافة العربية المقروءة والمسموعة والمشاهدة، أكثرها يمر هكذا من دون حساب للنوايا والمقاصد، ولكن تكرارها يحولها إلى بديهية تفكيرية لا نلبس أن نجد أنفسنا غارقين بقضايا ليس لنا بها ناقة أو جمل هذا في الحد الأدنى، فمثل هذه القضايا يفترض أننا تجاوزناها إن لم يكن بسبب بالعقل والحكمة، كان بسبب الابتعاد الاجتماعي الطبيعي عنها. طبعا لا مجال لحصر هذه التخبيصات التي تحول عدد غير قليل منها إلى بديهيات تفكيرية، ولما يزل الإعلام يرشقنا ببعضها يوميا.
ربما كانت عقوبة الجلد واحدة من تلك التخبيصات الإعلامية حيث تواتر ذكرها والمطالبة بها لا بل الحكم بها بشكل مكثف هذه الأيام.... نعم الجلد، فهذا محام مصري (يعمل بالقانون) يطالب بجلد المخرجة (العادية جدا) إيناس الدغيدي لأنها تقدم برنامجا تلفزيونيا رمضانيا رأى فيه خدش للحياء العام (مفهوم قانوني محدث)، حيث يتم الخلط بين القديم والحديث، المتروك والممارس، القانون والشرع، الصواب والحلال، الماضي والحاضر، الحرية بمفهومها الدنيوي والحرية بمفهومها الماورائي. .نعم كل هذا وغيره الكثير ينتج عن تكريس كلمة أو جملة عبر التكرار.
لم نعد نسأل عن مصير لبنى الحسين الصحافية السودانية والتي جلدت عشرة من صديقاتها ولم ندري لماذا هي حولت وحدها إلى المحكمة كي تحاكم (تحكم) وتجلد، بسبب عدم ممارستها الحشمة (الحشمة والاحتشام تتكرر كثيرا في الإعلام) بلبسها بنطلون.
إذا لماذا عودة الجلد؟ سؤال لأكثر من جواب!! ولكن عودته الإعلامية بهذه القوة تقول الكثير.
تخبيصة أخرى تتردد هذه الأيام وبقوة وبالنظر إلى يهودية الكيان الصهيوني والتي تأخذ لها مكانا في صراعنا مع العدو، نلحظ وفي ذكرى 11 سبتمبر إطلاق مصطلح (الأميركيون والمسلمون) حيث يبدو الخلط الفادح مفضوحا، حيث تتقابل هويتان ليستا من نفس الجنس، فالأميركية أسم لأمة مثلها مثل العربية أو الفرنسية أو السورية أو اليابانية، والإسلام هو دين، حيث المقصد مختلف بين الأسمين، وتكريس هذه المقولة والموافقة عليها وممارستها كبديهية، يجعلنا كأننا لم نصل بعد إلى عصر القوميات ولا عصر الدولة، فالمسلمون ليسوا كيانا واحدا، ولا يمتلكون هوية قومية واحدة ولا تنظمهم دولة واحدة، وليسوا على موقف مصلحي واحد فلماذا دمجهم بهذه الآلية التي تفضي إلى ما لا تحمد عقباه.
ولكن الموضوع يمر ويترسخ عبر التكرار الإعلامي، الذي يجد الوسائل دوما لتحريك وتكرار المصطلح، حيث يمكن اتهام أي مسلم في أية دولة بخيانة مجتمعه أو يتمترس المسلمون خلف هوية غير حقيقية صنعتها تكرارات الإعلامية.
هل هناك موقف إسلامي موحد بالنسبة لـ 11 سبتمبر كي نحولهم إلى دريئة للأمريكيين ؟ هل هناك صراع قومي إسلامي أميركي (هناك المسلمون الأميركيون) والمسلمون ينتمون إلى عدد كبير من القوميات ومنها القوميات الغربية؟
إذا لماذا الخلط والتخبيص؟
لقد أصبحت وسائل الأعلام قوة قادرة على ترسيخ القيم والمفاهيم بسبب القوة الحداثية التي تمتلكها من تكنولوجيا وخطط ومناهج، فهل نمتلك ذاك المستوى الحداثي الذي يجعلنا نعي ما نتلقى؟ أم العودة إلى التلقي القطيعي هي الأسهل والأكثر تنبلة، كتحرك الماء في المنحدرات.