النظرة الأولى للعلاقات بين سورية وتركيا ربما تضعنا عند تصور جغرافي، فمسألة الحدود بينهما بقيت محكومة بمجموعة من المسائل، وبحركة ديموغرافية نشطة، والحدود بين البلدين لم تظهر بشكل تلقائي حتى بالنسبة للجمهورية التركية التي ظهرت بشكلها الحالي بعد الحرب العالمية الأولى، فالصراع على الحدود كان محكوما بنتائج الحرب العالمية الأولى، وباتفاقيات تم عقدها ثم ألغيت، ولكن النتيجة الأساسية هو أن الوضع الحدودي أوجد نتائج سكانية شكلت مسألة أساسية في علاقات البلدين.

عمليا فإن الدراسات التي ظهرت في أواسط الثمانينات حول العلاقات بين البلدين تركزت حول محورين: "السكان" الذي يقصد منه الموضوع الكردي لكنه ربما يكون أوسع لأنه يشمل فئات مختلفة أيضا، أما المحور الثاني فهو "المياه"، وشكلت الاتفاقيات التي عقدت بين تركية وسورية محاولة للدخول إلى جوهر هذه المشكلة، لكن هذين الموضوعين كانا أكثر تعقيدا من وضعهما في مساحة تفاهمات فقط، دون ان يتشابكا مع مجموعة العلاقات الإقليمية التي تحكم المنطقة بشكل عام.

فبالنسبة لتركيا كان هناك أمرين أساسيين: الأول هو أن المسألة السكانية والكردية على وجه التحديد، كانت بالنسبة لها مختلطة مع مجموعة من العوامل المتعلقة بسياستها الإقليمية عموما، فهي موضوع مزعج نتيجة الواقع التركي المنكفئ عن نوعية الصراع في الشرق الأوسط، حيث كان تشابك الحدود بين تركيا وجيرانها في الجنوب خاضع لنظرتها إلى دورها باتجاه أوروبا، وهذا التوجه الاستراتيجي بدأ يشهد تحولا بعد الحرب الباردة، وتبدل دور "الناتو" مع عجز تركيا عن الدخول إلى الاتحاد الأوروبي وحتى قدرتها في التحكم بالموضوع القبرصي وفق علاقاتها القوية مع أوروبا والولايات المتحدة.

التحول الثاني الذي حكم الموضوع الكردي هو احتلال العراق الذي جعل من هذه المسألة علامة أساسية داخل الجغرافية - السياسية في الشرق الأوسط، فبالنسبة لأنقرة لم يعد التحرك محكوما فقط بحزب العمال الكردستاني بل أيضا بوجود فيزيائي واضح على الأرض يحتاج لتعاون إقليمي ولدخول مباشر نحو هذا الموضوع.

الأمر الثاني هو تقاسم المياه، فبغض النظر عن المباحثات المستمرة، لكن التحولات الاقتصادية في تركية أعادت مسألة المياه إلى دائرة إستراتيجية أوسع، فتركيا هي صاحبة فكرة "أنابيب السلام" التي رافقت مشروع "الشرق الأوسط الكبير" لـ"شمعون بيريس"، ومؤتمرات المياه التي استضافتها تركية وضعت هذا الموضوع في عمق التكوين الخاص بالشرق الأوسط الذي يتبدل عمليا نتيجة "الواقع المائي"، لكن المسألة ربما اتسعت اليوم خارج إطار "التقاسم" لنهري دجلة والفرات.

النظر إلى الأمرين اليوم لم يتجاوز "الأزمة" لكنه على الأقل يحاول وضعها في إطار "ما هو قائم"، فالتسويات الحدودية ليست مسألة جغرافية فقط، بل شأن حيوي سكاني وبيئي، وهو مرتبط بتعقيدات لا يمكن حلها فقط على سياق التفاهمات السابقة لأنه مرتبط بحركة إقليمية وليس بعلاقات حسن جوار، وطالما ان هناك مياه تتدفق من هضبة الآناضول وتسير نحو شط العرب، وحركة سكانية متداخلة ما بين سورية وتركيا وصولا إلى العراق، فإن الدائرة التركية في رؤية العلاقات ستتسع في ظل عدم وجود تأثيرات دولية مباشرة، وهو ما يدفع أنقرة ودمشق للنظر لهذين الموضوعين "المياه والسكان" على أنهما مواضيع مشتركة وليست نقاط تفاوض فقط.

الدائرة الأوسع لا تتعلق فقط بالتحول السياسي مع حزب العدالة والتنمية، بل أيضا بإعادة النظر إلى الأمور وفق السياق الإقليمي العام الذي يتأثر به الجميع.