سنتوجه إلى تركية دون التفكير بالوقوف أمام السفارات وانتظار اللحظات الحاسمة حتى يتم ختم جواز السفر، وربما سنرى ونحن نعبر الحدود ملامح نسيتها أجيالنا يوم كانت قادرة على التجول بحرية أكبر، وعلى البقاء حيث "حلت رحالها"، وبالطبع فالمسألة ليست في أن العالم تغير، وأن القرنين الماضيين سجنا سكان العالم ضمن جغرافية محددة، بل أيضا في أننا ربما لم نحاول فهم ما حدث، ورؤية العالم الذي صاغته نظريات الحداثة فتحول وفق انعطافات حادة، ثم انتهى حيث نراه اليوم وكأنه عالم افتراضي فقط.
وإذا كنا سنفرح كثيرا بقدرتنا على التجول شمالا، وبمعرفة ان هناك حوالي 90 مليونا تضمهم سورية وتركية قادرون على التواصل بعيدا عن شبكة الانترنيت، فإننا أيضا سنعرف اليوم وربما بالملامسة تجربة فريدة، دون أن يقتصر الأمر على جولات سياحية بل أيضا على امتداد حضاري من جهة، ومحاولات حداثية من جهة أخرى، فتركية ليست دولة عابرة يمكن التجول فيها لحمل ذكريات وصور نتناقلها، لأنها في النهاية تشابكت مع كل التكوينات التي حملناها، وحتى مع حركة "التنوير" الذي سعى إليها البعض في أوائل القرن الماضي، وهي أيضا تركيا التي رأيناها تتحول باتجاه آخر وربما نعجب من نوعية ما حدث فيها، ثم فاجأتنا من جديد بصورة مختلفة يسميها البعض "الاسلام المعتدل"، ولكن علينا ملاحظة أن هذا "الإسلام" لم يكن ممكنا لولا تجربة علمانية طويلة....
أسئلة كثيرة اليوم تدور مع البوابات المفتوحة، وهي ليست بالضرورة سياسية بل ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، فنحن أمام مساحة تحوي "زخما إعلاميا" ومراكز أبحاث، وتداخلا إثنيا وفي النهاية نموذجا يمكن قراءته سياسيا. ففتح البوابات يمكن أن يقدم بيئة مختلفة عما نعرفه من حولنا، ويمكن أن نرى حاضنا ثقافيا قدم ناظم حكمت وعزيز نيتسين و إيردال أوز.
المسألة الأعقد اليوم هي البحث في تركيا دون النظر إلى الموضوع السياسي، لأنه في النهاية يخضع لمؤسسات ترسمه وتضع خطواته المتعاقبة، فنحن نبحث عن فضاء آخر يمكن عبره خلق هذا التكوين الذي يساعد على فهم ما نحن عليه الآن، وما يمكن أن يحدث لحركتنا الاجتماعية في ضوء لقاء من نوع خاص، ومع مجتمع ربما ينظر تجاهنا بنفس العين ولكن من موقع مختلف.
عندما أرى تركيا لن أنسى كيليكية واسكندون وانطاكية وديار بكر و ربما سأحاول الوصول إلى "قونية"... لكنني أيضا أريد أن ألامس مساحات إضافية نشأت وتفاعلت منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين، ووصلت إلى حدودي أو ربما وصلت إلى حدودها.