إعادة رسم المناسبة لسقوط جدار برلين لا تبدو موفقة وسط صورة لـ"التطرف" المحتمل، رغم ان المناسبة بذاتها شكلت أملا لسقوط كل حالات العزل أو الخوف من الآخر، أو الرهاب الداخلي، وانهياره لم يكن تفوقا لمعسكر على آخر، بل لأن الثقافة إجمالا وصلت لمرحلة جديدة كنا نعتقد أنها قفزت فوق كافة الحواجز، لكن كان علينا انتظار خمس سنوات حتى تسقط الجدران داخل جمهورية جنوب أفريقيا (1994)، والتطور الأخير كان العودة لهذه الثقافة التي فتحت عهدا من "الجدران الجديدة" بالمعنيين الفيزيائي المعنوي.

سقوط جدران برلين لم يمنع بعد أكثر من عشر سنوات من ظهور مقالات في صحف أمريكية تقترح على الإسرائيليين بناء جدار يصل إلى السماء خلال الانتفاضة الثانية، ولم تحد أيضا من عمليات ظهور جدران أخرى ما بين المكسيك والولايات المتحدة، ومن اقتراحات الإدارة الأمريكية في بناء جدار بين العراق وسورية، والأخطر هو الجدار المعنوي الذي بدأ بالظهور بعد أحداث أيلول، علما انه كان يتطور بشكل بطيء، حتى أصبحت المطارات "جمهوريات مستقلة"، وبات التنقل محكوما بعمليات "التحقيق" قبل منح تأشيرات الخروج، ومهما كانت المبررات فإنها تؤكد أن ثقافة الجدران عادت للظهور.

النظر اليوم إلى هذه "الثقافة" مختلف عن مراحل الحرب الباردة، لأنه في جوهره يعبر عن تناقض صارخ في "الصيغة الدولية" التي تتمتع بتقانة عابرة للقارات بينما تعجز عن منح البشر حق التواصل إلا بالطريقة الافتراضية، بينما التماس الثقافي الحقيقي ممزوج بالعنف سواء في أفغانستان أو باكستان أو فلسطين أو حتى على الحدود المكسيكية الأمريكية، رغم اختلاف درجات هذا العنف ومبرراته.

والأخطر في المرحلة "الجدارية" اليوم هي عمليات التأسيس الثقافي الخاصة بها، فهي معقدة أكثر من السابق، ولم تعد تتعامل مع عمليات قطع جغرافي، إنما تستفيد من إمكانيات الانتشار الواسعة للفضاء الرقمي لخلق معارك يعتقد البعض أن مساحتها هي في حدود الإنترنيت، لكنها تكون بشكل سريع حدود ثقافية وتزيد من عمليات التباعد والخوف والعزلة، وحتى وهم التفوق على الآخر، وبالطبع فإن هذا الأمر يبدو محدود التأثير داخل "المجتمعات" التي تملك استقرارا داخليا، إلا أنها في المناطق المحيطة في الأزمات يشكل حربا حقيقة دون أساس فكري أو دون تدخل مباشر من الدول الكبرى.

سقط جدار برلين وهذا أمر يجب عدم نسيانه، ولكن في نفس الوقت يجب عدم التفكير به من جانب واحد، لأن التطرف يحتاج لأكثر من الجهد السياسي، وهو أيضا لا يقف في معسكر ضد الآخر بل ينتشر أينما وجد "فراغ ثقافي" و "إخفاق سياسي"، والنماذج المتوفرة اليوم لعمليات العزل ليست بعيدة عنا، كما أن التطرف لا يمكن حصره بهوية فهو في النهاية يمكن أن يصبح ظاهرة دولية عندما نراه بعين واحدة فقط.