كان مشهدا مذهلا يحتاج لقراءة مختلفة عن طبيعة الحدث، وعن ربطه فقط بالذكرى 85 لتأسيس الحزب الشيوعي، لكنه في نفس الوقت لم يكن سوى علامة فارقة في قراءة صورة الحياة السورية المتعددة الوجوه، فمن المؤكد أن القادمين من تيارات "اليسار السوري" لم تكن غايتهم فقط رفع أعلام الحزب، أو تأكيد التواجد داخل المشهد السياسي، فمن كلمة الدكتور قدري جميل كان واضحا نوعية الهم الفكري من جهة وربما البحث عن المساحة التي يتم استهلاكها من قبل "قوانين السوق" التي باتت وكأنها أمرا واقعا.
الصورة نفسها ظهرت قبل شهرين تقريبا في احتفال مشابه داخل مكتية الأسد للحزب السوري القومي الاجتماعي وفي ذكرى تأسيسه أيضا، لكن الهم كان أكثر "عمومية" وربما الحشد أقل نتيجة المكان الذي احتضن الحدث، وفي نفس الوقت ظهرت صورة أخرى للحياة السورية بعيدا عن الشكل المألوف داخل الإعلام او حتى في مساحة "الإنترنيت"، فهناك أجيال على ما يبدو مازالت مرتبطة بـ"نوعية العمل العام"، وبالتعبير عن "فرحها" و "حزنها" أو حتى "إرادتها" في سياق مختلف عن المناسبات التي لا تحمل "سمة" خاصة، او ترتبط بالماضي وبالتكوين التراثي، علما أن هناك أجيال شبت وربما لم تختبر من المناسبات سوى تلك المألوفة من قرون.
عمليا فإن التركيز على مثل هذه الظواهر هو دخول أولي في الشؤون الحزبية، أو في قدرة الأحزاب الموجودة على الساحة العربية عموما في التأثير الثقافي، علما أنها لا تعدم الوسائل في "الحشد" ولها وسائل إعلامها وحتى رأيها في الكثير من قضايا الحياة العامة التفصيلية ابتداء من الفساد وانتهاء بمسودة مشروع قانون الأحوال الشخصية، لكن آليات الماضي لم تعد تجدي اليوم، واقتباس أشكال العلاقات العامة ثم إسقاطها على مؤسساتنا حزبية كانت أو حكومية أو حتى مدنية لن تؤثر في إعادة رسم التكوين الثقافي، فنحن أمام شكل مركب وربما حركة نتج عنها الكثير من "الشواش" Chaos حسبت تعبيرات الرياضيين، حيث لم يعد من الممكن توقع استجابة المجتمع لأي تحرك ممنهج أو يقدم أفكارا تختلف عن الواقع الذي يظهر أمامنا.
الأحزاب اليوم تفشل في أن "تتحزب" لقضايا تفصيلية أو عامة رغم قدرتها على الحشد الذي يعتبر كبيرا نسبيا، وربما قدرتها على تأسيس أرضية جديدة لأفكارها أصبحت شبه معدومة، فالربط بين نظامها الفكري وحركة الحياة اليومية يبدو مفقودا، كما أنها تبدو في كثير من الأحيان متوقفة عند حدود "الأزمة" دون جرأة على اخترقها لسبب بسيط أن دخول الأزمة ربما يحمل إعادة لقراءة لكل الأفكار وحتى "الثوابت" المستمرة حتى اليوم.
ربما علينا أن نقرأ الأحزاب ومناسباتها لأنها تدفعنا مجددا إلى صلب أزمتنا مع الحداثة ومؤسساتها، فنحن بالفعل بحاجة إلى تشكيلات ربما تكون مختلفة عما عرفناه بعد الاستقلال مباشرة ومستمر حتى اليوم، ولكننا بحاجة أيضا إلى التفكير بـ"أزمة العمل العام" وتأثيرها على مستقبلنا.