أصبح العشق مفخخا، وبغداد تسبح على مساحات "السياسة" وفق القياس الجديد، فمن "درس الديمقراطية" الذي صٌفعنا به قبل سنوات أدركنا ان السياسة مختلفة عما تعلمنا، وأن الأحزاب يمكن أن تقاس على مساحة الملة أو العشيرة، وأن عشق الأعظمية يمكن أن ينتهي بعويل النساء أو حتى بصرخات لا مكان لها تبدأ من بغداد وتمتد على مساحة الشرق القديم والجديد لترسمنا وفق خارطة الموت مواطنين مع وقف التنفيذ....
من يستطيع نسف الذاكرة التي تتشكل اليوم؟!! ومن القادر على اقناع الأجيال بأن الحضارة ممكنة، وأن الحياة هي الأقوى، وأن حسابات مجالس العشائر وأئمة الملل وحتى أصحاب الأحلام المحصورة بالموت لن تسود علينا؟! ومن يستطيع إعادة تشكيل الصرخات والعويل لتغدو لحنا مختلفا ينطلق بنا من جديد إلى مسيرة الحياة؟! إنها الأسئلة التي لم تبدأ باحتلال العراق، لكنها حفرت في داخلنا رعبا من أي مجهول ربما يلامسنا، فتتحطم كل الخطوط التي تربطنا بالحاضر وتجعل من الناس وقودا يوميا لطموحات مريضة، والأهم أن تعاد نفس الرواية القديمة أمام "حرب الظلال" التي لا نعرف من أين بدأت؟ ومتى ستنتهي ؟، فهل يسترجع التاريخ الصراعات الأزلية؟! وهل كم الأسئلة الذي يهاجمنا قادر على منحنا زمن كي نفكر من جديد؟!
في العراق لا نسترجع الذاكرة، ولا نحلم إلا بالأطفال الذين يولدون اليوم أو يرحلون أمام كلمة "الدامي" التي أصبحت ترافق كل أيام الأسبوع، وأصبح التحدي عند البعض في القدرة على رسم الرعب، أو تكريس "أشباح" قادرة على التواجد فجأة والانفجار في كل لحظة، ولا حاجة للبحث عن هذا الكم من البشر القادر على زرع الرعب، أو حتى من أين جاء! لأن الموت بعد أن يمد بساطه لا يُسأل بل يصبح سيدا من وراء حجاب...
من أين جاؤوا؟!.... لن تنظر الأجيال إلى هذا السؤال ولن تبحث عنه، فالجريمة واقعة، وما حدث يسحبنا نحو العمق أو يدفعنا باتجاه جدار يضعنا في مواجهة العجز والعبث وربما البحث بين أشلاء من فقدناهم عن صورة لأمل نبتدعه، لكنه في النهاية يبقى أسير الصورة الآنية، ومن أين جاؤوا؟! سؤال عبثي لأنهم كانوا مزروعين منذ لحظة الاحتلال، ومنذ التفكير بأن الاستباحة لا يمكن أن تتحقق إلا بتلك الصورة القميئة لإزاحة التاريخ أو سجن الحاضر داخل أوهام الماضي، فيعود عهد "الفتنة" ولكن بأشكال متجددة، ويغدو "الزنادقة" صورة أزلية داخل عالم متبدل....
لن يجدي الأسى فالصورة انحفرت داخل مساحة الأجيال الآتية، ولن ينفع العويل إلا في تخفيف هذا الثقل القابع فوق الصدور، وحروب الردة ممكنة في زمن العولمة، وفي عالم جرفنا نحو الماضي وكنا بالفعل طيعين ومطيعين وسنحمل أينما ذهبنا "هما" ثقيلا تلخصه صور الموت في العراق.