لم يختلف المشهد في غزة بعد عام كامل، لأن القصف الذي بدأ في مثل هذا اليوم، وانتهى على صورة من "التشتيت" للواقع السياسي؛ فإنه في نفس الوقت أوجد معه ما يمكن تسميته بـ"الجدران العربية" التي لا تشبه بالصورة أو المضمون جدار الفصل العنصري في فلسطين، لأنها في النهاية تشكل "فواصل سياسية" عازلة وربما قادرة على تفكيك أي صراع قبل أن يتحول إلى تيار اجتماعي، فالدرس الأساسي في غزة يتلخص في "وحدانية التجربة" عبر تحويلها إلى نقطة خلافية حول طبيعة الحل السياسي، فأعمال البناء على حدود رفح بدأت قبل الحرب على غزة، وربما من إعلان تسيبي ليفني بكلمات سريعة من على منبر مصري "كفى.. كفي"...

ما نفهمه اليوم بعد عام كامل أن تجربة غزة دخلت منطقة "الحرام" بالنسبة للنظام العربي، أما في سياسات الدول فإن الوضع مختلف، لأن التعامل مع هذا الموضوع متروك إلى "المسارات الإنسانية" وليس للحلول السياسية، والمبررات المصرية التي تساق اليوم على أنها ترتيبات إدارية ومرتبطة بالمصالحة الفلسطينية، تعبر في عمقها عن موقف سياسي من مسألة الوجود الإسرائيلي وليس من الخلاف الفلسطيني.

خلال عام كامل سجلت السياسة العربية أكبر إخفاقاتها في مسألة غزة، هذا إذا لم يكن الأمر ترتيبا خاصا متعلقا بتجربة المقاومة، فالمسألة ليست في حماس أو حزب الله، بل في طبيعة التفكير الذي يحكم مراكز القرار وربما يجعلها تتبع إستراتيجية فصل تجربة المقاومة عن محيطها العام، فالأفضل في مثل هذه الحالة تحديد هوية للمقاومة محصورة بتصورات مسبقة عن التطرف أو الإرهاب أو "الإمارة الظلامية" حسب تعبير محمود عباس، علما أن الحرب كانت بهدف الإبادة وهي مارست عنفا غرز في تاريخ العالم نقطة فاصلة، وهو أمر يضاف إلى مساحة الرعب العربي في انتشار خيارات جديدة لمواجهة الاستباحة، وهذه الخيارات تبدو أكثر تنظيما مما حدث منذ "شيوع" تنظيم القاعدة الافتراضية، لأنها واضحة الأهداف، كما انها أكثر نزاهة من التشكيلات التي رافقت ظهور السلطة الفلسطينية وما رافقها من فساد.

وبالإمكان ملاحظة السياسة العربية في مرحلة ما بعد حرب غزة، لأنها أخذت منحى يتصف بأمرين أساسيين:

الأول تلخيص المعادلة بالمصالحة العربية، علما أن الافتراق العربي ظهر على أرضية الصراع مع "إسرائيل"، فالمصالحة التي حدثت سارت باتجاه مختلف تماما لأن غاياتها كان استباق أي ترتيب إقليمي جديد، فموضوع غزة انتهى عربيا لحظة إعلان المصالحة وغاب الخطاب الذي يريد أن يحاسب القتلة ليحل محلة لهجة أخرى مهتمة بالأزمات الناتجة عن الاحتلال وليس بالاحتلال نفسه.

الثاني انتهاء الرهانات الفلسطينية على الإدارة الأمريكية الحالية التي يبدو أنها غير مستعجلة في فرض حل الدولتين، رغم انها أرسلت جورج ميتشل إلى المنطقة مرات عدة، وحتى حل الدولتين لم يعد مفهوما في ظل خلط الأوراق عبر "يهودية دولة إسرائيل". ونهاية الرهان جعل العمل السياسي مقصورا في "كبح المقاومة" من أجل إقناع الوسيط الأمريكي بضرورة الاستعجال في تحريك التسوية، وعندما تدعي السلطة الفلسطينية أن "إسرائيل" تخضع اليوم لضغوط وتحاول استفزاز الشارع الفلسطيني للدخول في "دوامة العنف"، وأن الوعي الفلسطيني يستوجب ضبط النفس، فإنها تتجاهل أيضا أن الضغوط جاءت نتيجة تنوع الخيارات، وأن الحل السياسي أصبح رزمة كاملة من الصعب البدء بها الآن دون تحول جذري في رؤية العرب لمسألة التسوية.

ما شهدناه عبر عام هو أنه ممنوع على غزة أن تصبح رمزا، وأن تحويل الخلاف باتجاه حماس هو محاولة لكسر أي معنى للمقاومة، فغزة ليست حماس حتى ولو كانت حماس هي التي خاضت الحرب، لأن هذه الحركة هي في النهاية تيار مقاوم والخط الأحمر اليوم هو على عودة المقاومة مهما كانت أفكارها علمانية أم دينية...