إنه مشهد طريف، فحصار غزة لا يكتمل إلا بحصار مختلف نوعيا، لأنه من النوع الثقافي الذي يحاول سد ثغرات الاحتكاك المباشر، أو التعامل بعقل مختلف مع الحدث الذي نراه، في "إسرائيل" يظهر أكبر غيتو عرفه التاريخ، حيث تبدو فلسطين محاصرة بالسياج والجدران وبتقنيات لم أكن أتوقع أن تظهر من العقل البشري في زمن العولمة.
في فلسطين لم تبق سوى السماء كي نتنفس منها، أو ربما نفتح قلوبنا لها لأنها نافذتنا على الكون، ومساحتنا الباقية من جغرافية الحصار، وفي فلسطين أيضا حواجز ثقافية إلكترونية أو اسمنتية، أو حتى معدنية تحت الأرض، وأبراج مراقبة ترصد حتى التفاتة العشاق، ولا نعرف هل تقوم الأقمار الصناعية بسد السماء علينا، أم أنها تسبح لغرض آخر... وشد الأبصار على تلالها وهضابها، وربما شكلت لفترة طويلة مركزية لإنسانية انتقلت باتجاه الثورة الزراعية، لكن البعض يعتقد أنه قادر على إيقاف عقارب الزمن، واستبدال الجغرافية بأشكال افتراضية، فترتفع الجدران وتتراكب المأساة، وفي النهاية أتنهد باتجاه السماء التي أصبحت بساطا لا أعرف متى يغلقونه.
ربما أفهم كل عمليات الإغلاق الأمني، وأستطيع التعايش مع "أنظمة الاحتلال" التي جعلت من القدس مدينة غارقة في الوحدة، ودفعتني خارج الخارطة التي اعتدت عليها، وربما من خوف قاتل أمام "حق العودة" تصبح الجدران أشكالا معنوية أكثر منها حواجز من الصعب اختراقها، لأنها رمز نهائي للابتعاد، ولعودة البحث عن "العنصر" المسموح له بالتواجد على هذه الأرض، فما يحدث يخرج عن سياق الحياة ويصرخ في وجه الجميع كي يبتعدوا عن مجاله الخاص....
في فلسطين أيضا عشق ضروري يمكن أن نسكبه على حدود العزلة المفروضة، وفرح علينا زراعته رغم السواد المفروض بحجة "السيادة"، فجدران الكراهية وأسوار العزلة لا تجعل العدو بعيدا، بل تريد كتابته في داخلنا، وربما رسم اعتياد على القطيعة التي يتم فرضها بشكل تدريجي، فعندما يجوب البعض العالم في محاولة للوصول إلى غزة، فإن آخرين لا يريدون من العالم سوى مساحاتهم الضيقة.
هي فلسطين بكل العشق الذي تحمله تستطيع التنفس رغم الأرض التي تضيع بفعل الجدران، وهي المكان الذي يفتح أبوابه للعالم، ثم ينطلق من السماء حتى ولو استطاعت "إسرائيل" سجن سكانها....