أنقرة تأتي بشكل سريع داخل الحدث، فهي مثقلة فقط بهموم تحولها الداخلي ومعاركها الدستورية، بل بالدور الإقليمي الذي يستند إليه الكثير من الحراك الداخلي أو حتى التنافس مع المؤسسة العسكرية التي تظهر وكأنها الظل الذي يتبع تركيا في أي خطوة، ووجود وزير الخارجية التركي في دمشق ولو بشكل سريع يشكل بذاته مؤشرا على أن الأفق السياسي ربما سيشكل محاولة للانتقال بالمنطقة إلى مرحلة مختلفة، فالمسألة ليست فقط في "التسوية" أو الانتخابات العراقية" بل أيضا في التعامل مع "الوقت الضائع" في المفاوضات "الإسرائيلية" - الفلسطينية التي دفعت الإدارة الأمريكية من جديد لإرسال مبعوثها الخاص جورج ميتشل.
ووزير الخارجية التركي الذي يعرف طبيعة التعامل مع ملف التسوية فإنه في نفس الوقت يدرك أن دور بلاده سيبقى في "الإطار الإقليمي" أولا وأخيرا، وأن السياسة الإسرائيلية تسعى دائما إلى جعل الأوراق الإقليمية على هامش التحرك الدولي، وهو أمر يرسم حدا واضحا في خارطة الشرق الأوسط:
الأول يكون مجموعة الدول الداعمة التي تفضل دائما جعل عملية التسوية نافذة باتجاه "الآخر" أو الإستراتيجية الدولية، فدورها الإقليمي محكوم بالتفويض الدولي الذي يتيح لها التعامل وفق مجال زمني محدد، وبغض النظر عن مواقع هذه الدول لكنها في النهاية تسعى إلى عدم "الخوض المباشر" في أزمات المنطقة، فتوازنها الداخلي يمثل "إستراتيجية" متكاملة لأي تحرك خاص بها، وأمنها المباشر يستند إلى الثبات الخاص لأزمات المنطقة، لذلك فإن "التسوية" بالنسبة لها ليست مرحلة يمكن أن تقود إلى مشهد إقليمي جديد، بل آلية مستمرة تمنع المفاجآت داخل أي صراع في المنطقة وعلى الأخص الصراع العرابي الإسرائيلي.
الثاني دول التماس المباشر مع الأزمات، وهي ليست بالضرورة تلك التي تملك جبهات مع "إسرائيل"، لأن هذا "التماس" يعني إيجاد توازن استراتيجي إقليمي، يضمن على الأقل استيعاب النتائج الناجمة عن "الأزمات" سواء كانت في العراق أو فلسطين أو حتى لبنان، وتبدو تركية ضمن هذه الدول حيث لا يمكن لدورها الإقليمي أن يقدم مجالا جديدا يعوض فشل محاولاتها في دخول "النادي الأوروبي" إذا لم يُخلق هذا التوازن، فدورها كـ"وسيط" في عملية التسوية ليس "آلية" سياسية يمكن استخدامها بحدود معينة، أو حتى بتفويض من "الآخر"، لأنه في النهاية أمر حيوي بالنسبة لها ويشكل عمقا خاصا داخل سياستها الإقليمية عموما.
زيارة أوغلو لا تعني فقط أن تركيا ماتزال راغبة في لعب دور بين سورية و "إسرائيل"، فالمسألة تبدو أعقد من ذلك، فالوساطة بالنسبة لها هي مقدمة لنظام إقليمي يخرج عن الشكل الذي ساد منذ حلف بغداد وصولا إلى الاستقطاب الذي ميز مرحلة احتلال العراق، لأنه في النهاية نظام لا يريد خلق التناقض بل رسم توازن مع محيط يتسع رغم كافة الصراعات التي تحيط به، فالمسألة السياسية بالنسبة لها هي وجودها كعقدة اتصال داخل قوى تملك محطة لها في تركية، سواء كانت هذه المحطة في حلف شمال الأطلسي أو "المؤتمر الإسلامي" أو حتى في علاقاتها العسكرية مع كل من واشنطن و "إسرائيل"، فدورها الإقليمي حتى اللحظة يسعى لإيجاد نقطة ارتكاز داخل تركية تضمن لها على الأقل منافسة القوى الأخرى التي تملك "نفطا" أحيانا أو تقنية نووية أو حتى تفوقا عسكريا كما في "إسرائيل".