لا يمتد تاريخ التسوية على مساحة زمنية مفتوحة، فهو وليد لحظة خاصة كما حدث بعد حرب تشرين أو في أعقاب "حرب تحرير الكويت"، وكافة "المصطلحات" المستخدمة في الخطاب السياسي مقتبسة من القرارات الدولية التي ظهرت أيضا نتيجة حالة استثنائية، والواضح أيضا أن "الإبداع" السياسي العربي عموما توقف عند حدود تقديم آليات التعامل مع "السلام" أو "التسوية"، وفي اللحظة التي يعود فيها الحديث عن "مفاوضات غير مباشرة" بين سورية و "إسرائيل"؛ فإننا سنتوقع أشهرا حافلة بالتحليلات الصادرة عن "الصحف الإسرائيلية"، وهي تشكل بمجملها "آلة" لا تستهدف الرأي العام فقط، بل محاولة لبلورة الصورة القادمة إذا قُدر لها أن تحدث.

عمليا فإن مجرد الحديث عن مفاوضات مع الجانب السوري تغري بالكثير من "التكهنات"، فهي الجبهة الأكثر تعقيدا ليس من الناحية الجغرافية بل "استراتيجيا" كونها الوحيدة القادرة على تعديل التوازن في المنطقة، فالجبهة السورية تشكل "نظاما فكريا" بالنسبة لـ"إسرائيل" أكثر من كونها "عدوا" عسكريا فحسب، وهو أمر سيدفع بالتأكيد إلى مزيد من التحليلات التي ستحاول رسم هذا المسار، أو حتى وضع الحدود التي سيقف عندها على الأخص أن تاريخه لا يحمل الكثير من المفاجآت بالنسبة لـ"السياسيين الإسرائيليين".

على الجانب السوري هناك حديث دائم عن الحقوق، وهي تعني عودة الجولان والانسحاب الإسرائيلي لخطوط الرابع من حزيران، وأمور تقنية مختلفة تشبه إلى حد بعيد ما حدث في عملية "فك الارتباط" التي حدثت بعد حرب تشرين، لكن الأمر لا يقف عند هذه الحدود عندما نصل إلى التفاصيل، فهناك في الخطاب السوري "السلام العادل والشامل"، وهو شرط كان واضحا منذ منتصف السبعينيات عندما كانت دمشق ترغب في وجود مفاوض عربي مشترك مقابل "المفاوض الإسرائيلي"، وهي أيضا حاولت ربط مسارات التفاوض أكثر من مرة، فهل هناك تحول في مسألة "العدل والشمولية" بالنسبة لدمشق؟

ليس هناك ما يوحي بالتحول رغم أن سورية دخلت المفاوضات أكثر من مرة، وفي المقابل ليس هناك أيضا أية مؤشرات حول الصورة النهائية لمسألة "التسوية"، فالخطاب السياسي بقي على ما هو منذ أن تم تحديد السلام كـ"خيار استراتيجي"، رغم أن هذا الخيار تخلخل بشكل واضح، وظهر خطاب مختلف خلال حرب تموز تحدث عن خيارات أخرى، إلا أن الواضح أن "عملية السلام" بقيت داخل التفكير السياسي كما هي منذ انطلاقتها في مدريد رغم ظهور عوامل مختلفة تم استيعابها من النظام العربي بالدرجة الأولى وليس من دمشق.

المفاوضات غير المباشرة التي يمكن أن تنطلق بعد أن تحدثت تركية عن محاولة استئنافها من جديد هي ليست مفاوضات تقنية، وفي الصراع العربي - الإسرائيلي هناك أكثر من مجرد الانسحاب من الأرض، فظهور إسرائيل نفسه أعاد رسم المنطقة، وشكلت الحروب أيضا نقاط انتقال لواقع "الشرق الأوسط"، فمسألة التفاوض تعني في النهاية احتمالات مفتوحة وتجددا في حيوية القضية الفلسطينية التي أثرت على شكل الخارطة السياسية للمنطقة، فالتحليل السياسي الذي يمكن أن يظهر خلال الأسابيع القادمة هو دخول في مساحة هذه القضية وليس فقط في مسارات التفاوض، لأنها في النهاية تشكل صورة المنطقة ونوعية التوازنات داخلها.