أكثر من مسألة مناوشات، فإعادة فتح جبهة غزة بالنسبة لـ"إسرائيل" تحمل آلية سياسة مزدوجة، ربما تبدأ بإعادة التركيز على مسألة "الدفاع" بالنسبة لها بعد أن أصبح موضوع المستوطنات عنوانا دوليا، وربما نقطة جدل في العلاقات ما بين الولايات المتحدة وحكومة ونتياهو، ومن جانب آخر فإن غزة قادرة على تحريك المواضيع الداخلية الإسرائيلية، وإعادة موضوع "حركة حماس" إلى الواجهة، وهو أمر سيشكل حساسية بالنسبة لسياستها الداخلية، ومبررا أمام المحافل الدولية لاستعادة "مبادرة الأمن".

بالطبع فإن ما يجري حاليا يبدو كـ"مناوشات" قياسا للحرب التي خاضتها نهاية عام 2008، في وقت تبدو حماس في موقع مختلف حيث لا تظهر تصريحات "هجومية" كتلك التي كنا نسمعها قبل العدوان الإسرائيلي عليها، والموقفين ربما يسجلان حالة سياسية غير مسبوقة في مسألة الصراع العربي - الإسرائيلي، لأن "الجيش الإسرائيلي" يقوم بعملياته في ذروة البحث عن مخرج سياسي، فالقصف المحدود خلال اليومين السابقين تزامن مع عودة "الرباعية الدولية" للتحرك، وعلى الجانب الفلسطيني فإن موقع غزة يبدو بعيدا جدا عن الملفات المفتوحة حاليا في "التهويد" أو "حرب المستوطنات" أو حتى في الجدل السياسي الدائر عن العلاقات "الإسرائيلية" - الأمريكية، وربما لهذا السبب يبدو الأمر رغم الاعتداءات الإسرائيلية ساكنا، أو تبدو غزة قادرة على استيعاب الاعتداءات.

لكن أي تحرك عسكري إسرائيلي لا يمكن قراءاته بشكل سريع، وحتى مع الادعاءات بأن "القصف يستهدف أنفاقا" أو تحركات على خط التماس، إلى أن العودة إلى غزة يمكن قياسه إقليميا من جانبين:

الأول هو الاستعانة بالجبهات التقليدية لتدعيم الموقف السياسي، فـ"إسرائيل" تعي تماما حجم الإرباك الدولي الذي أحدثته بتصريحات وزير خارجيتها حول مسألة الحرب، أو حتى بإعلامها عن مخططات الاستيطان في لحظة التحرك الأمريكي، واستعادة جبهة غزة هي عودة إلى نقطة زمنية سابقة لأي تحرك سياسي ظهر مع الإدارة الأمريكية الجديدة، فهو يسلط الضوء على مناطق التوتر القابلة للاشتعال في أي لحظة، وربما يعيد التحرك السياسي عبرها بدلا من أن ينطلق من نقاط الاختلاف الجديدة مثل "التهويد" أو "الاستيطان".

الثاني هو اختبار لإرادة كافة الأطراف على التحرك، فالبداية اليوم بعمليات محدودة، لكنها قابلة للتطور، وهناك احتمالات تحرك مفتوحة بالنسبة لهذه الجبهة، و "الحكومة الإسرائيلية" تعرف تماما أن أي تحرك سواء من "جناح المقاومة" سيحمل معه بعض التبدلات السياسية، وسيشكل على الأقل جدلا سياسيا داخل الجانب العربي يمنحها الوقت الكافي للتحرك باتجاه الاستيطان أو غيره، وفي كل الأحوال فإن التشتيت السياسي سيصبح هدفا أساسيا في ظل الإرباك الحالي لعملية التسوية.

الجبهات التقليدية قابلة للاشتعال من جديد، هذه هي الرسالة الدائمة التي تطرحها "إسرائيل" مع تعطل مسارات التسوية، ومع التفويض بالتسوية وحتى مع عدم وجود إرادة للتعامل مع "الصراع" بشكل جدي وحاسم سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، فهل سنشهد خلال الأيام القادم تحولا في المسارات السياسية؟! هذا السؤال ربما سيبقى مؤجلا حتى موعد القمة العربية ليس لأنها قادرة على تحريك الأمور بل لأنها نقطة انتظار بالنسبة للنظام العربي ككل.