إنها تتشكل من جديد، وربما ما يسمى "العشوائيات"، لكنها تبقى مساحة من الكلام الذي يعيد تصويرها كمدن تحتاج بالفعل إلى البحث عن "شخصية" لها، وعن مسارات تضعها في مساحات الحضارة، فعندما نتجرأ في البحث ونحاول نبشها فإننا نجد أننا عالقون بالجغرافية، وكأن البشر الذين سبقونا لم يتركوا سوى آثار العمران، او بقايا مخطوطات أرخت لـ"الطبقات"، فهل يمكن اختصار المدينة بالمظهر الذي يفاجئنا؟
أسئلة المدن هي أسئلتنا وحياتها تتسرب إلينا حتى لو كنا غير قادرين على تحمل وطأة التغيير، فعندما نبدأ برسم "العشوائيات" على صفحاتنا فإننا سنهدر ثقافة لم نستطع أن نبحث بها، أو نضع كل ما أُضيف لدمشق أو غيرها وكأنه هامش غريب، فهل ثقافة "العشوائيات" كانت محدودة؟ وهل المدينة التي كنا نتغنى هي أشكال من الأحياء فقط؟ربما لم يفكر البعض أن الأحياء التي نعتز بها وزينت الدراما السورية كانت مجرد عشوائيات، وأن أحياء المدينة القديمة بتداخلها لا تقدم سوى شكل العشوائيات كما كانت سابقا، وأننا عندما نتحدث عن "المدينة" فإننا نقف عند حدود النهضة الأوروبية تحديدا عندما أصبحت "المدينة" ثقافة تشكل عمرانها وفق سياق مختلف عن العصور الوسطى.
كيف كانت لندن قبل ألف عام... وهل يمكن البحث في المدينة وفق التصور الذي يظهر تاريخيا مع فجر الحضارة؟! الظلم الذي نرتكبه اليوم يبدأ من خلق "فلسفة" للعشوائيات، فهي لا تقدم إلا تتابعا للظرف التاريخي، ويبدو من العسير "ثقافيا" أن نتركها ترسم صورة خاصة، أما عمرانيا فإن المسألة ربما تبدو تقنية ومعبرة عن "ثقافة عامة" وليس عن "عشوائيات" ظهرت وربما تغيب او تصبح جزء من هيكل المدينة.
وفي المدن مصطلح سياسي لا يمكن تجاوزه عبر شروح جغرافية، فزمن ياقوت الحموي انتهى، وما تركه لنا الرحالة العرب لا يصح استخدامه اليوم لإثارة قضية المدن، فهناك أسئلة كبرى وليس مجرد وصف يمكن أن ننقله كي نمنح لأنفسنا صلاحيات في تفسير "الاجتماع البشري"، أو نقحم "الفلسفة" في تفسير ظواهر سكانية تتكرر، بينما تبقى المدن خارج إطار الحياة التي نحلم بها، فالسياسة وربما المواطنة هي التي منحت المدينة الحديثة صورتها، والتفكير الاجتماعي الذي تطور من جان جاك روسو وحتى قبله أيضا هو الذي أعطانا تفسيرات مختلفة لتجمعات أصبحت شبكة من "المصالح.
المدن.. أو دمشق أو حتى القدس التي على ما يبدو تسقط من حساباتنا أحيانا هي في النهاية أكثر من وصف دقيق لأحيائها، وهي أيضا ترسمنا شئنا ام أبينا مستقبلا ينتظر الجميع ففيها كل الصور التي تركها السابقون، وعلى جدرانها يتم اليوم رسم ثقافة غائمة تحتاج إلى إعادة تفكير حتى تكتمل المساحات الخاصة بها.