لن نرى المدينة وشما يميز أبناءها، فهي ثقافة لم يعرفها العالم قبل أن يظهر التحول الذي جعل المدن حلقة في مجموعة مصالح، فتكونت وفق سياق الثقافة التي اخترقت العصور الوسطى لتجعل الحياة شكلا متسارعا يحاول تجاوز النمطية القديمة لأبواب تفتح نهارا وتغلق ليلا، أو لبيوت متراصة ترسم الأيام على جدرانها تاريخا من السهل التلاعب به، فعندما تنتقل المدينة إلى الزمن الذي يمزق إطار المألوف نبدأ بالحديث عن موقع آخر، وتصبح الأسماء خارجة من تاريخها، فالحديث عن مدن تاريخية سيظهر كانطباعات سريعة مقترنة بإشارات استفهام لا تنتهي، لكنها في "فضاء" المدينة تضع مساحة التناقض في المفاهيم، أو حتى في الرؤية، فلا مجال لخلق مقارنات لأن كل مدينة تضع صورتها الخاصة وربما تقدم تاريخها على مساحة عمرانها، فالبداية ليست دمشق أو بيروت أو حتى بغداد، والتاريخ لا يرسم الصورة الذهنية لمدينة "ما بعد الحداثة" أو للمزيج الذي أصبح يشكل علامات استفهام ما بين الأناقة في الهندسة والثقافة التي تتكون خارج الساحات الكبرى، وربما على "الأطراف" التي يبتكر البعض لها تسميات تتناسب مع "مركزية "الانتماء" للمدينة.

وجه لدمشق..لـ"لندن"

ملامح لا يمكن قراءتها سريعا، وتناقض في الرؤية وكأننا أمام "فصام" ينكب على الماضي، ثم يستيقظ فجأة فيعيد رسم نفسه بشكل آلي مبتعدا عن ملامسة النسمات التي تميز عطر المدينة، أو حتى أنوثتها اللغوية، وربما لا مجال للحديث عن العشق الذي تحمله لأننا أمام فصلين لا يمكن الجمع بينهما، فعلى الهامش تكبر وينتهي الرسم القديم، فالمدينة في النهاية ليست تسمية بل مفهوم اكتسب معناه من جديد، واتخذ موقعه الثقافي من الحركة اليومية لسكان أو مواطنين، فكيف يمكن رؤية مساحة دمشق؟ وهل نستطيع غناءها أم يفضل البعض رؤيتها في ملامح لوحة قديمة؟ هي ليست أسئلة لأنها في النهاية "معرفة"، لكن هل يمكن لهذه المعرفة أن تقارب فكرة أدونيس عندما يقول:" تتحول المدينة إلى فكرة أكثر منها واقعاً. دمشق فكرة، القاهرة فكرة.." وهل يمكن تلمس رؤيته أيضا عندما يعتبرها " مقيمة في العقل الغربي أكثر مما هي مقيمة في عقل الدمشقي نفسه، إنها غير موجودة في العمق التاريخي للدمشقيّ. كتبت نصوصاً كثيرة عن دمشق، ولكن أعتقد أنها غير معروفة كما ينبغي"[1].

إذا تبنينا فكرة أدونيس فكيف يمكن تفسير "النص الأدبي" الخاص بدمشق والممتد على مساحة قرن تقريبا في ثقافتنا المعاصرة؟ لكن الأمر لا يتعلق فقط بـ"النص الأدبي" الذي انحسر مع منتصف الثمانينات، ليظهر من جديد "نص بصري" إن صح التعبير غطى الزمن الممتد حتى نهاية القرن الماضي، فدراما التراث الدمشقي هي جزء أيضا من "رؤية المدينة"، حتى ولو بدت نوعا من الرسم على خيال خاص لا يستطيع رؤية المستقبل فيعزف على إيقاع الماضي دون الحاجة للتوثيق أو لوضع خلفية تاريخية للحدث الدرامي، وربما نستطيع كسر الحاجز الذي يجعل "الأدباء" فقط أبناء المدينة القادرين على وصفها، لأن "النص" عندما يخرج فإنه يصبح جزء من المدينة، ويتحول معها ويكون أيضا صورة تصبح أحيانا من الماضي وتتجدد أيضا وكأنها وحي دائم لا يلتزم بزمن النبوة أو بالوقت الخاص للشعراء والأدباء، فكسر الحاجز هو حصول على شرعية وضع الانطباعات حتى ولو كانت من أنثى تاهت في المدينة أو سجلت عشقها على شوارعها، أو حتى لرجل لم يعرف أنه سيجد نفسه في عزلة التكوين الذي يدفعه لأطراف المدينة فيُصنف على أنه من "العشوائيات" أو قادم من جدار جغرافي يحتجز خلفه زمنا لا يسير على إيقاع المدينة، فهل تستطيع الانطباعات كتابة هامش ثقافي؟

مدينة.. وساحات

مدينة بلا ساحات تصبح مجرد جغرافية تجمع "حشودا بشرية" فالساحات تشكل معالم المدن في مرحلة الخروج من ثقافة القرون الوسطى، فهل نجد في دمشق وجه لـ"ترافالغار سكوير" (Trafalgar Square)[2]؟ أو حتى ساحة ليستر سكوير (Leicester Square‏)[3]؟ فالساحات هي سمة المدينة التي تقدم مظهرا مختلفا عن مدن القلاع التي كانت محشورة ما بين الأسوار والقصر الملكي، وهي أيضا رمز للنافذة المفتوحة على مجتمع مركب ومعقد، فالساحات ليست طرازا معماريا أو واقعا يفرضه الازدحام المروري، لأنها ثقافة يمكن معرفتها من هوية تظهر وتجعل القادمين إلى مدن أبناءها بمجرد "التعايش" مع إيقاعها.

المدينة التاريخية يتوسطها المعبد، فهو رمز المركزية التي تكون نظامها وتفرض الانتشار الأفقي باتجاه الأسوار، والمركزية بمعنى آخر تكون لذاتها ثقافة خاصة ترى من يبتعد عنها "شاردا" أو "خارجا عن الطاعة ومفارقا للجماعة"، وهذه الصورة حملتها دمشق معها في الأحياء التي ظهرت في العهد الأيوبي ثم المملوكي، فمن يعيش خارج السور لا تكلله الحماية وهو غالبا ما يحمل غربته معه، فأنشأ المقادسة حي الصالحية، وقدم حي الميدان النموذج الآخر لنشاط المماليك خارج الأسوار فهو الحي الذي احتضن "الغرباء" في البداية قبل أن يصبح "متميزا" في ثقافة المدينة أواسط المرحلة العثمانية، فالمدينة التاريخية مناقضة للساحات التي تجمع الصورة من جديد وتضعها في إطار لا علاقة له بـ"مركزية المعبد"، وهي أيضا تقدم "الفكرة" الجديدة لمدينة كسرت الأسوار وتجاوزت القلاع وشكلت مساحتها الخاصة التي تجاوزت "الأصل السكاني"، ووفق المعرفة التي تؤسسها "الساحة" كفكرة لم تعد "العشوائيات سوى "مرحلة معمارية" تم تجاوزها سريعا، لكنها في المقابل شكلت "ثقافة مختلفة" لأنها عتبة حضارية في "تطور المدن".

مدن كسر الاعتياد

في العشوائيات كل شي ممكن أو هكذا ظهرت الصورة البصرية لتلال أو جبال تختفي سريعا تحت مد الإسمنت، ثم نحاول إعادة رسمها ثقافيا وكأنها غير قادرة على إنتاج نفسها، فالمظهر الجمالي لن يقدم لنا جديدا لأن أحياء دمشق متراكبة وفق نفس السياق، فالعشوائيات هي تكرار للزمن، وخارطة مختلفة عن "التضخم" الذي كان يضرب المدينة فجأة فتظهر على مساحتها بيوت متلاصقة وأزقة ضيقة يصعب البحث فيها عن لون خاص يفسر هذا التراكب والفوضى في تداخل المنازل، فيحاول البعض منحها بعدا مختلفا، ويكونون حياة لها ربما تفترق في الظرف على الأقل عن المشهد الواقعي، فالتكوين العمراني لم يحاول كسر الاعتياد، فالمساجد كانت تقام على أنقاض مساجد سابقة، والأسوار بقيت في الحدود التي صاغتها المعارك حول المدينة، أما الحياة الجديدة فتألقت في عصور التقلبات التي مرت سريعا لتعود الرتابة لإيقاعها الخاص.

ومن جديد فإن العمارة تعبر عن ثقافة يختزنها "الدمشقيون" أو غيرهم، لكن الغريب هو الصورة التي لا يمكن إنتاجها بشكل مغاير، فحريق لندن[4] أعاد هندسة المدينة ويبقى السؤال كم مرة احترقت دمشق[5]؟ وكم مرة أعادت نفسها على سياق الماضي؟ لكن المقارنة هنا تحمل تعسفا لأننا أمام الصورة التاريخية للمدينة وفي مواجهة ثقافة سمتها الأساسية محاولة خلق توازن داخلي، لكن هل انتقلنا لثقافة الشك وهل حملنا مع نهاية العصر العثماني "القلق الوجودي" إلى مدننا؟ فيما نسميه العشوائيات صورة مركبة لا تقدم إجابة عن السؤال السابق لكنها تنقل لنا مقاربة مع "الحالات التاريخية" لأنها "جزر" على أطراف المدينة تفرض واقعها رغم أنها تعيش على مركز المدينة، فهي تنمو دون أن تحمل معها الصور التي حملها البعض عن "التجمعات السكنية" على أطراف المصانع في إنكلترا، وتكبر من غير أن تقدم نموذجا يوحي للباحث أن يدخل فيها كما فعل "كارل ماركس" آخر أيامه في لندن عندما كتب "رأس المال".

هي صورة واحدة عن حالة "الاعتياد" التي تجعل المدينة وفق نسق واحد، فيغيب من تاريخها الألق الذي يميز بعض سنواتها، وتستمر الصورة التي تقارب الشعر عندما نفتح ديوانا لنزار قباني، فبقدر "الجرأة" على كسره لخصوصية الحياة الدمشقية فإن وصف المدينة يبقى من داخل المنازل، وتبقى مسألة "الياسمينة" و "النارنج" وباقي الأوصاف لداخل المنزل دون أن نصل إلى الحياة العامة، أما الصور فهي مجاز للتاريخ، وهي نوع من محاولة إمساك نقطة يمكن الانطلاق منها إلى حاضر المدينة. النص الأدبي للمدينة هنا يبدو فاقعا إذا ما قارناه بأشعار نزار قباني عن بيروت "فالحب في بيروت مثل الله في كل مكان". كم خاطب نزار قباني دمشق، لكنها بقيت بين الكلمات مدينة ذكريات، أو ربما تحولت إلى حلم خاص فترتسم الصور دون أن تقيم مدينة في النص الأدبي، ودون أن تنتقل إلى عصر مختلف، فهل كان على الشاعر أن يخلق معجزته داخل هذه المدينة!!!

وجه لدمشق ربما لا نستطيع الانفصال عنه سواء امتدت العشوائيات، أو انكسرت الثقافة على مساحة "الاعتياد"، فهل صحيح أنها لم تقدم احتمالات كثيرة للمبدعين؟ وهل كثرة الأسئلة تقودنا لصورة أخيرة تحفر في عمق المدينة؟ فهي دمشق قائمة على قدرة البقاء، وعلى التأسيس لنفسها كثقافة تقف على "الحد" دائما فلا تستطيع كسر المألوف ولا حتى إيقاف الجرأة التي تظهر فيها، فالإبداع مغامرة تحمل احتمالات "العزل" و "الوحدة"، وتضع روايات لأبي خليل القباني ولطاهر الجزائري ولعبد الرحمن الشهبندر وغادة السمان ونزار قباني وأسماء كثيرة ربما يصعب تمييز مكان إبداعها أو الخط الفاصل لامتزاج ثقافتها بدمشق.

[1] - عن موقع وزارة الثقافة السورية:

http://www.moc.gov.sy/index.php?p=30&id=5455

[2] - ساحة «الطرف الأغر» Trafalgar Square: كبرى ساحات وسط العاصمة البريطانية. يطل عليها من الشمال متحف «الناشونال غاليري» (المعرض الوطني)، ويتوسطها «عمود نيلسون» الذي ينتصب أعلاه تمثال القائد البحري الكبير هوراشيو نيلسون بطل معركة «الطرف الأغر» البحرية التي دمّر فيها الأسطول البريطاني يوم 21 اكتوبر (تشرين الأول) 1805 أسطولي إسبانيا وفرنسا قبالة قادش بأقصى جنوب إقليم الأندلس الإسباني. وقد أنشئت الساحة عام 1805 وحملت اسمها تقديراً للانتصار الكبير، مع أنه كان مقرراً في وقت سابق أن تحمل اسم «ساحة الملك وليام الرابع».

[3] - هي ميدان يجمع أماكن التسلية من دور سينما وينتشر فيه الموسيقيون والرسامون.

[4] - حريق لندن الكبير اجتاح أجزاء واسعة من وسط عاصمة المملكه المتحدة، وقع يوم الاحد 2 ايلول واستمر حتى يوم الاربعاء 5 ايلول من سنة 1666م. النار كادت تصل إلى حي وستمنستر وقصر تشارلز الثاني (القصر الأبيض) واجزاء كبيرة من الأحياء الفقيره في الضواحي. وتسبب الحريق في تدمير 13200 منزلا و 87 كنيسة من بينها كاتدرائية سانت بول، وقدر عدد النازحين بحوالي سبعين ألف نسمة.

[5] - يتحدث ابت تغري بردي عن إحراق تيمور لنك لدمشق عام 1401 فيقول "ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد، وكان يوما عاصف الريح، فعم الحريق جميع البلد حتى صار لهيب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها ثم رحل تيمور عنها بعد أن أقام ثمانين يوما وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالا بالية ولم يبق بها الا الأطفال". دمشق احترقت قبل ذلك عام 1340 وهو ما يذكره محمد بن يوسف بن عبد الله بن شمس الدين الخياط الحنفي الشاذلي في قصيدة من واحد وستين .