كافة الانعكاسات الدولية بشأن "أسطول الحرية" يمكن استيعابها سياسيا بالنسبة لـ"إسرائيل"، فالمهم بالنسبة لها ليس صورتها أمام العالم أو "شرعية" الدفاع عن أمنها فهو أمر لا يبدو حتى اللحظة مهددا بشكل مباشر، بينما تظهر الإرباك الحقيقي في قدرتها على التعامل مع موقعها "التقليدي" داخل الشرق الأوسط، فمسألة "عزلتها" تبدأ في غياب "جبهات الصراع" التي كانت منذ النصف الثاني من القرن الماضي "تهندس المصالح" في المنطقة.
بالنسبة لإسرائيل مسألة "الأمن" لا يمكن حصرها فقط بالجبهات التقليدية التي بقيت ثابتة، رغم التوسع باتجاه الجولان أو سيناء أو الضفة الغربية، فالتهديد العسكري لم يصل إلى مسألة "تهديد الوجود" الذي طالما طرحته مراكز الدراسات عندها، فمسألة التفوق العسكري كانت كفيلة بتأمين الحد الذي يتيح لها الردع الدائم، لكن هذا الوجود يمكن النظر إليه من زاويتين:
•الأول أن بنية "إسرائيل" مركبة وفق "الشرق الأوسط" بجغرافيته التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، فهو قائم على واقع "جيوستراتيجي" يمكن أن يختل فيما لو ظهرت تحولات في العلاقات الإقليمية، وفي المقابل فإن دراسة التوجهات السياسية التي تحكم دول الشرق الأوسط تقدم مؤشرات على تحول الصراع، وحتى على اختلاف أدواته، فخروج مصر على سبيل المثال بعد اتفاقيات كامب ديفيد لم يحمل معه "إزاحة" لها ككتلة سياسية بل أيضا بدل من توجهات منظمة التحرير، حتى ولو بدا هذا الأمر نتيجة اجتياح لبنان عام 1982، لكن هذا التحول ظهر بعد غياب عامل عربي ودخول "العامل الخليجي" بقوة سواء عبر مبادرة "الأمير فهد" في بداية ثمانينات القرن الماضي. بنية "إسرائيل" بقيت محكومة بالتوازن الشرق أوسطي الذي كان يستوجب تدخلا أجنبيا بشكل دائم، رغم أن الميزان العسكري كان لصالحها بشكل دائم، وربما لا حاجة لاسترجاع تواجد المارينز مرتين على الأقل في لبنان، أو حتى مسألة "الأحلاف" العسكرية، وفي النهاية فإن الولايات المتحدة تدخلت بشكل مباشر في العراق، فـ"إسرائيل" تنظر إلى التوازن بشكل حذر، وحماسها لـ"الشرق الأوسط الكبير" ربما كان من هذه الزاوية تحديدا.
•الثاني أن "البنية الداخلية" الإسرائيلية بدت مكشوفة منذ الانتفاضة الأولى، فهناك عدم قدرة على الصراع الذي يخرج عن سياق "الجبهات التقليدية"، وعلينا ملاحظة أن "دعوات السلام الإسرائيلية" بدأت تخرج عبر مشاريع إقليمية منذ نهاية الثمانينات وذلك مع عدم قدرة "إسرائيل" على التحرك عسكريا على جبهات المواجهة القديمة. "السلام" بالنسبة لـ"إسرائيل" هو في النهاية "هندسة إقليمية" بالدرجة الأولى، وهذا الموضوع هو الذي يربكها اليوم ليس على مستوى "القيادات السياسية" بل في مراكز أبحاثها التي تحمل دائما افتراضات تبدو أشبه بالخيال العلمي، لكنها تعكس في النهاية قلقا من ساحة الصراع المستقبلية التي لا تبدو محصنة سوى من جهة جنوب، وهو الرهان الجديد بالنسبة لها، فهل تستطيع تعويض الارتجاج الإقليمي بـ"جبهات" جديدة يمكن أن تجعل الأدوار الإقليمية تواجه بعضها، وهل يمكن للقلق السعودي من إيران أن ينتقل نحو قلق جديد من تركية... هذه الأسئلة هي التي تظهر اليوم ويمكن أن تصبح مثار جدل سريع داخل الشرق الأوسط.