مقارنة بما شهده الشرق الأوسط مع بداية الألفية الجديدة فإن "العقد الثاني" من نفس الألفية يمكن النظر إليه بشكل مختلف، فمسألة الصراع العربي - الإسرائيلي تبدو وكأنها تشكل نواة أزمات جديدة مختلفة في شكلها على الأقل عن الصورة النمطية التي سادت على امتداد نصف قرن، فنحن شهدنا ظاهرة "محاصرة الصراع" بنزاعات جديدة ترتبط به أو بالأدوار الإقليمية، في وقت خرج فيه هذا الصراع من "مساحة الوجود" إلى واقع جديد.
عمليا فإن الصراع مع "إسرائيل" ظهر بشكل مرتبط مع "النظريات السياسية"، وارتبط أيضا بـ"التشكيل القومي" الذي كان الدافع الرئيس لجعل هذا الصراع يملك بعدا جغرافيا أوسع مما كان يسمى "دول الطوق"، ورغم أن "نجاحات إسرائيل" العسكرية حققتها في تلك المرحلة، لكنها في نفس الوقت قدمت ظرفا سياسيا ربما لم يستثمر إلا أنه رسم خارطة صراع تميزت:
•- بحيوية واسعة أنتجت إحساسا بالذات على الأقل بالنسبة للجانب العربي، فتلك الحقبة شهدت نكسة حزيران إلا أنها في المقابل قدمت الحراك السياسي الأساسي الذي توقف عمليا مع مرحلة دخول هذا الصراع في الحسابات الإقليمية للدولة الإقليمية, فالحيوية كانت مسؤولة عن إنتاج "الأحزاب السياسية" أو التيارات أو حتى حركة الحداثة، فالصراع بذاته قدم "عصبية" و "قلقا" أو محفزا للتفكير، وربما علينا النظر أيضا إلى مجمل النتائج الحالية مثل حركات المقاومة على أنها امتداد لما حدث في تلك الحقبة، بينما يمكن تصنيف ما يسمى بـ"جمود" النظام العربي كحالة بدأت مع خروج الصراع عن محوره الأساسي. •- تكوين سياسي يبحث في الممكنات بدلا من التعامل فقط مع ظروف الواقع، فالإمكانيات أو استشراف المستقبل وصولا إلى ما يسمى اليوم في السياسة بـ"الواقعية" و "الأحلام" و "المراهقة السياسية"، فمسألة الممكنات أنتجت عمليا "الكفاح المسلح الذي ينتهي في خطه اليوم بمسارين الأول هو السلطة الفلسطينية، والثانية المقاومة بفضائلها المختلفة. بالتأكيد كانت السياسة في تلك المرحلة تفتقر في بعض نواحيها للا تزان، لكنها سياسة شابة تحاول اختراق الأزمة المفروضة عليها دوليا أو حتى إقليميا، وفي تلك السياسة ظهرت هوامش البحث والتفكير، وربما "التنظير"، فمسألة الجرأة السياسية لا تعني اليوم اعتماد أساليب" ظهرت في الستينيات، لكن مسألة الإبداع السياسي تحتاج إلى التحرر من هواجس "الاستقرار" أو "التوازن الإقليمي" لأنهما مسألتان تتناقضان مع الواقع أو حتى مع توازن القوى إقليميا على الأقل.
لا يمكن لـ"الإبداع السياسي" أن يظهر وسط التفكير فقط بإيجاد "التفسير" أو "التبرير"، وبالتالي البحث دائما عن عوامل أبدية تتحكم بنا، لأننا شهدنا "ظواهر سياسية" والظاهرة الجديدة قابلة للتحقق شرط أن نتحرر في تفكيرنا على الأقل من الاستنتاجات المسبقة.