هي قفزة بالزمن، لأن أكثر من نصف قرن لم يكن كافيا لإقناعنا بأننا مازلنا نعيش "النكبة" بمسميات مختلفة، ومازلنا أيضا خاضعين لـ"الشرط الإسرائيلي" في اختلاق الحرب أو استباحة حياتنا، فالنكبة زمن متحول وربما يسير بنا دائما، أو يعيش معنا في أشكال الإحباط التي تتولد كلما حاولنا أن نبحث عن مخرج لتفاصيل حياتنا، ففي 15 أيار من عام 1948 ظهرت البدايات الأولى لكل ما يمكن أن يوقعنا بـ"الشرط الإسرائيلي"، أو يكتبنا من جديد كبشر غير قادرين على حسم الحياة دون النظر إلى الاستيطان الذي يطال حتى أجسادنا.

كم هو تاريخ قريب ومكتوب بعناوين مختلفة لكنها أيضا خاضعة لـ"الاستنساخ" أو النسخ، فتلون حياتنا بالرمادي وتحشر نظرنا في إطار يقف عند الحدود ولا يستطيع عبورها، فكيف سنتذكر فلسطين بعد ستة عقود من تسربها إلى "الآخر"؟ هل يمكن إعادة المدن إلى لحظة التحول في ذلك العام الذي نسف كل احتمالات الهدوء؟ وهل بعد تجارب الثورة والتسوية والنهوض والتعثر واليقظة والسبات يمكن أن نعيد تاريخ النكبة إلى مساحة عقلنا؟ هو تاريخ ممتد ويحمل كل ما هو غير متوقع، فنهدأ او نثور، أو ينسجم البعض مع الحاجز المبني على حدود أشجار الزيتون التي "تعاشر" أحلامنا، لكنه يبقى كتاريخ لغزا لم نستطع حله أو وضعه خارج رؤيتنا رغم أن نسيانه يدخل أيضا في مساحة الاحتمال.

تغيرت المدن... لم نعد نسمع بيافا، وأصبحت "كريات أربع" أكثر حضورا من عكا... لم يعد الساحل الفلسطيني يعربش على صدور النساء ويكسبهم "حدة" ارتبطت بتاريخ من التحولات الحضارية، ولم تعد القدس طريقا سالكا بينما ينتصب "حائط البراق" رمزا لانتهاء الطيف اللوني الذي شكل المدينة... ولم تعد فلسطين سوى متابعة لقرارات يحفظها البعض، أو تشكل ديباجة المواقف الرسمية، وعلينا أن لا نذكر "حرب التحرير الشعبية" و "ثورة حتى النصر" لأن المسائل حسب ما يرى البعض مركبة ومعقدة بنفس درجة تعقيد المبادرة العربية..

بالتأكيد تغيرت المدن، لكن هل تبدلت فلسطين؟!! والتأكيد لم يعد البعض يحلم ببيارات البرتقال التي كونت وعي الأجيال في مرحلة ما بعد النكبة، وغاب محمود درويش فلم يعد أحد يسجل "أنا عربي سلب كروم أجدادي"... وحتى قصيدة راشيل لنزار قباني تم حذف مقاطع منها عندما جسدت الدراما حياة الشاعر حتى لا يتم اتهامنا بالعداء للسامية، فمن سيذكر الأطفال بعد ذلك بأن هناك "حق" ودماء واحتلال يغزو حتى أجساد النساء؟!

مع "النكبة" لن يكون الطريق إلى التسوية سالك، ومعها أيضا تتغير المدن لكن شاب واحد من رام الله أو من القدس أو من حيفا أو غزة ينعش الذاكرة، وسيارة جيب عسكرية أو حاجز تفتيش يعيدنا لتاريخ النكبة... ستتغير المدن وسيختلف البعض بشأن العدو، لكن فلسطين ستبقى في النهاية حاضرة لأنها كانت ذروة بحثنا عن هوية للمستقبل.