بعض دول أمريكا اللاتينية حسمت أمرها بشأن الدولة الفلسطينية، واعترفت بـ"الدولة" ضم حدود 1967، وهي لم تنس أيضا التذكير بـ"حق إسرائيل"، ووفق السياق السياسي فإننا سنفهم هذا الموضوع ضغطا على الطرف المعطل للمفاوضات حتى ولو كانت تلك بقع "ماوراء البحار" حسب التعبيرات القديمة، لكن هل يمكن ضبط إيقاع تداعيات مثل هذا القرار؟

فتحت هذه الدول سابقة باتجاه تجاوز واقع دولي تشكلت فيه لجان وصدرت قرارات، ويتم التعامل مع السلطة الوطنية وفق هذا الواقع سواء بالمساعدات أو حتى بالدعم السياسي، ومن المستبعد في الوقت الحاضر أن تلجأ السلطة إلى تحويل واقعها إلى دولة على الأقل داخل تلك الدول التي اعترفت بها، لكن السياق السياسي الذي دفع إلى الاعتراف بـ"دولة فلسطين" ربما لا يكون مناسبا لفهم ما يمكن أن يحدث جراء مثل هذه القرارات، و "الاحتمال الأبعد" ربما يشكل أفضل تفسيرا لما يحدث اليوم.

بداية فإن الحكومة "الإسرائيلية" الحالية هي من النوع الذي لا يمكن إحراجه، وهي أساسا لا تملك خيارات في مسألة التسوية، فالوضع "الجيوسياسي" في المنطقة يمنعها من اتخاذ خطوات غير متوقعة، فهي تعاني من ظروف إقليمية ستؤدي في أي لحظة ضعف إلى انهيار ليس فقط على مستوى علاقاتها الإقليمية، مع تركية ومصر والأردن، بل أيضا في بنيتها الداخلية التي تعاني من "الشكوك" ومن "الارتياب" الدائم نتيجة عدم تماسك "نظرية الأمن" لديها. ومن المستبعد أن يؤدي الاعتراف بدول فلسطين إلى تحرك حقيقي في مسار التسوية طالما أن "إسرائيل" في هذا الموقع الحساس.

الإحراج الأكبر سيكون باتجاه السلطة التي تقف في مساحة رمادية تجعلها غير قادرة على اتخاذ القرارات، فإذا استجابت لمثل هذا الاعتراف وتعاملت مع نفسها على أساس دولة فإنها ستخسر كل رهاناتها الحالية وستضطر إلى إخلاء الساحة لوجوه سياسية جديدة، وهو أمر يملك بعض البوادر داخل الضفة الغربية رغم الحديث الدائم لسلام فياض عن "السلام الاقتصادي".

في القابل فإن النظام العربي حتى لو رخب بخطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية لكنه سيجد نفسه محرجا امام ذاته، وهو الذي يملك "مبادرته" الخاصة والتزاماته بدعم عملية التسوية، لكن هناك دولتين إقليميتين على الأقل ستشعران بالراحة لهذا القرار وتستطيعان التعامل بهامش واسع مع مسألة الاعتراف، فتركيا لن تكون مضطرة بعد اليوم لتحمل أعباء البدء بهذا الاعتراف لأن هناك من سبقها، وهي أساسا غير مضطرة لمثل هذا الاعتراف للمحافظة على توازن في العلاقات الإقليمية، لكنها ستتعامل مع الموضوع بإطار الدور الموازي للاعتراف، وخلق بدائل إقليمية داخل عملية التسوية... كيف؟!

سؤال يمكن أن يحمل إجابات متعددة وذلك على الضوء التنسيق مع الدولة الثانية "إيران" في هذا الموضوع، فالاعتراف بدولة فلسطين سيشكل بالنسبة لهما خروجا عن الإطار التقليدي الذي تتم فيه المعالجة، فهو بشكل أو بأخر سيحمل معه إزاحة الموضوع الفلسطيني وربما نهائيا من إطار "البعد العربي"... إنه الاحتمال الأبعد لكن علينا التفكير به.