الكاتب : طه عبد الواحد

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن موقف تركيا من مطالبة الولايات المتحدة لها بالانضمام إلى مشروع الدرع الصاروخية والسماح بنشر مكوناته في الأراضي التركية. وتذهب معظم وجهات النظر إلى وصف الأمر وكأنه قضية على درجة عالية من التعقيد وتحد يواجه القيادة التركية. ومع الإقرار بأن مسألة كهذه ليست عادية، إلا أنها ليست قضية محرجة جداً لتركيا أمام الولايات المتحدة، إذ لا شك بأن الموقف الرسمي التركي من الطلب الأميركي لن يذهب إلى درجة ترجيح كفة المصالح الأميركية على المصالح التركية.

عدم وجود ما يحرج تركيا في مسألة الدرع الصاروخية قضايا عدة أولها أن دول الناتو لم تتوصل بعد إلى تفاهم مع روسيا، المعارضة حتى الآن لهذه المنظومة الدفاعية الصاروخية. ما يعني أن تركيا ليست مطالبة حالياً بإعلان موقف واضح من مشاركتها في الدرع الصاروخية. وفي حال قدم الناتو لروسيا عرضاً يجعلها تنخرط في هذا المشروع، وهو أمر لا يبدو منطقياً حتى الآن، لكن في حال حدث ذلك، فإن أي شكل من أشكال المشاركة التركية في الدرع الصاروخية لن يسبب إحراجاً لأنقرة في علاقاتها مع موسكو.

بالنسبة لإيران والدول العربية المجاورة لتركيا، فمن الواضح أن أنقرة لن تغامر بأي شكل كان بعلاقاتها مع هذه الدول، حيث شكلت هذه العلاقات القاعدة الأقوى التي انطلقت تركيا من خلالها لشغل موقع القوة الإقليمية المؤثرة، والقوة صاحبة الهيبة والنفوذ والجديرة بالاحترام والتقدير في العالم الإسلامي. أي أن تمسك تركيا ببوابات علاقاتها الأخوية الصادقة مع دول الجوار، وحرصها في ممارسة سياساتها الخارجية على مصالح هذه الدول، وصون العلاقات معها، مؤشرات تدل أن تركيا لن تذهب إلى المشاركة في أي خطط أميركية، وغير أميركية، تؤدي إلى خسارة تركيا لعلاقات أصبحت اليوم مكون رئيسي من مكونات صورة الدولة التركية بأعين العالم ككل والعالم الإسلامي على وجه الخصوص. ناهيك بأن الولايات المتحدة عاجزة حتى اللحظة عن تقديم عرض مغر لأنقرة كي تنجر إلى خطة الدرع الصاروخية. وأي عرض لا يشمل دفع الأوربيين لقبول تركيا في الاتحاد الأوربي، ويضمن لتركيا أمنها الإقليمي، أي الأمن والاستقرار في محيطها الجغرافي، لن يكون مقنعاً لأنقرة.

حتى لو قدمت الولايات المتحدة مثل هذا العرض وأعطت ضمانات التزام به، فإن تركيا قد توافق على المشاركة في الدرع الصاروخية لكن بصورة تتناسب مع مصالحها وأمنها القوميين. ولن يكون من الصعب على القيادة التركية تبني مثل هذا الموقف، وهي التي سبق وأن رفضت مشاركة بالحرب على العراق وفق التصور الأميركي، وجرى هذا في عهد المحافظين الجدد والكاوبوي (بوش الابن) الذي تميز بأنه عهد دخول الولايات المتحدة بمغامرات ما زالت تؤثر بصورة مباشرة على سمعتها وتلعب دوراً في رسمها لسياساتها الخارجية. أما الآن في عهد أوباما الحريص- حسب تصريحاته- على الحوار مع الجميع وإعادة الهيبة لبلاده والحفاظ على حلفائها التقليديين، فلن يكون هناك ما يسبب القلق لأنقرة إن تبنت موقفاً من المشاركة في الدرع الصاروخية لا يرضي الناتو ورأس الحربة فيه الولايات المتحدة. علاوة على ذلك لن يؤثر الموقف التركي السلبي كلياً أم جزئياً من الدرع الصاروخية على علاقاتها بحلف الناتو، لاسيما وأن قواعد حساسة وهامة للناتو والولايات المتحدة منتشرة على الأراضي التركية، ولن يكون من السهل للحلف التخلي عن كل هذا. ما يعني أن أي موقف تركيا من الدرع الصاروخية لن يؤثر بذلك الحجم على علاقات تركيا مع الولايات المتحدة أو الناتو ككل.

أما لو نظرنا إلى جوهر الدرع الصاروخية فنجد أنه مشروع عسكري الظاهر سياسي الجوهر، يُراد منه وضع أسس جديدة لمنظومة علاقات، في أوربا وآسيا، تلبي تطلع الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها القارية. أما بالنسبة لما قد تتركه الدرع الصاروخية من تأثيرات على تركيا فإن مطالبة الولايات المتحدة من تركيا المشاركة في الدرع الصاروخية خطوة يُراد منها الحد من تصاعد الدور التركي على المسرحين السياسيين الإقليمي والدولي، ما يعني من الناحية الإستراتيجية توجيه ضربة لعمليات التكامل السياسي والاقتصادي الجارية في المنطقة بعيداً عن التأثر بالنفوذ الأميركي، وهي العمليات التي يرى فيها كثيرون معالم أولية لولادة منظومات علاقات إقليمية قابلة للتوسع، تحد من نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة على المستوى الإقليمي مع ما سيتركه هذا من انعكاسات سلبية على مفهوم الهيمنة الأميركية ككل.

أخيراً هناك اختلاف جوهري بين الرؤى الأميركية والتركية لمفهوم "مصدر التهديد والخطر"، فبينما ما زالت الولايات المتحدة تصر على تبرير حاجتها بالدرع الصاروخية لمواجهة مصدر التهديد الصاروخي القادم من الشرق الأوسط، حسب تصريحات إيفو دالدر ممثلها في الناتو، لا ترى تركيا اليوم أن دول الجوار (يشكلون الجزء الأهم من الشرق الأوسط المقصود بالعبارات الأميركية) يشكلون مصدر تهديد لها. ما يعني أن تركيا، على الأغلب، لن تشارك بخطط مهما كانت موجهة ضد من لا ترى فيهم مصدر تهديد لها ولدول العالم، وإن شاركت في الدرع الصاروخية، فستنتظر الحصول على مقابل يخدم مصالحها وسياساتها، ومع ذلك ستكون مشاركتها شكلية لا أكثر.