المسألة ليست مجرد مقارنة بين الماضي والحاضر، لكنها مجرد تلمس لطريقة التحول التي تسير عليها الآلية السياسية، وربما علينا أن نذكر هنا أن ما حدث في غزة قبل عامين لم يكن جديدا من حيث الظاهرة، فمنظمة التحرير الفلسطينية تعرض عر تاريخها لعمليات مشابهة، وكانت مدينة بيروت شاهدا على حجم الدمار الذي بدأ منذ عام 1971 ولكنه استمر رغم خروج "المنظمة" من لبنان.

نوعية "المجزرة" هي التي اختلفت، وطبيعة التغطية الإعلامية جعلتنا نعيش في شوارع غزة لحظة بلحظة، لكن الأخطر هو اختلاف التعامل الدبلوماسي العربي مع الموضوع، فحروب "إسرائيل" السابقة كانت تحمل على الأقل حالة "تجميع" لتعاطف يعوض على الأقل الغطاء السياسي أو شرعية المقاومة إن صح التعبير، وكان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وكان في تلك الفترة معروفا بـ"أبو عمار"، ينتقل بعد كل معركة في الدول العربية ربما لتأكيد واقع المقاومة، ولكنه في نفس الوقت كان يجمع الدعم المادي لترميم الضرر الناجم، لكن المسألة المالية ليست موضوعنا على أهميتها، فما كان يحدث في تلك المرحلة هي تأكيد التواجد السياسي لعامل القوة، فتبدو منظمة التحرير رغم الخراب والهزيمة عنصر الحيوية في الموضوع الفلسطيني.

بعد حرب غزة هناك حالة مناقضة، رغم أن ما حدث فيها شكل نقطة توازن في الصراع، بينما كان الغطاء السياسي العربي هو الذي يضمن هذا التوازن لمنظمة التحرير قبل أن تلغي بند "الكفاح المسلح"، فالدبلوماسية العربية ترفض حتى اللحظة الاعتراف بـ"واقع غزة"، وذلك بغض النظر عن مسألة حماس أو باقي التيارات المتواجدة فيها، وهي وفق التصرفات والآليات لا ترى فيما حدث "ظاهرة" يمكن أن تمتلك شرعية داخل "العمل العربي"، بينما تمنح كل خيبات "محمود عباس" الغطاء السياسي.

من الصعب إيجاد مبرر واضح لما يحدث من محاولات "العزل" السياسي المفروض على غزة عربيا، وهو أمر أوقف الزمن في القطاع عند نقطة نهاية الحرب، كما أن التفسيرات التي تتعامل مع غزة كجزء من السلطة الفلسطينية وتترك موضوعها لجهود المصالحة لا تفسر عدم التعامل إعلاميا على الأقل مع غزة كجغرافية عربية تتعرض للاعتداء، ومن الممكن إيجاد مبررات للنظام العربي ولكن المسألة لا يمكن تفسيرا إلا بمحاولة إيجاد قطيعة معرفية مع زمن سابق، والسياسة العربية عموما تعتقد أن غزة تنتمي لهذا الزمن.

عمليا فإن جزء من النظام العربي يرى أن "القضية الفلسطينية" إجمالا تعود لزمن الحرب الباردة، لذلك فهناك جهود لتقديم براءة ذمة من هذا الزمن و "الاعتراف بإسرائيل" ولو عبر طريقة التفكير بالقضية الفلسطينية، وتبقى إشارات الاستفهام حول "الذعر" من زمن الحرب الباردة، رغم أن الاحتلال الإسرائيلي ظهر قبل هذه الحرب، وفي نفس الوقت هناك إستراتيجية واضحة في التعامل مع الشرق الأوسط، فهو وجد مع "إسرائيل" وعلى ما يبدو فإن البعض مقتنع أنها ضمان لهذا التكوين السياسي.

عزل غزة يجسد الخوف من البحث عن "إستراتيجية" مختلفة وربما شرعية لمجمل النظام العربي، فهو نظام لا يخاف التغير فحسب بل ليس مستعدا للبحث عن أسباب بقائه في المستقبل.