التسويات الصعبة هي تلك التي تظهر خارج حقل السياسة، لأنها تظهر على قاعدة مختلفة تحاول رسم وضوح خاص سعى إلى الثبات، أما مثيلاتها السياسية فهي تبدو إجرائية لأبعد الحدود، وربما علينا أن نطرح هذه التسويات من جديد في إطار ما يمكن أن نشهده مستقبلا وعلى الأخص بعد أحداث "الإسكندرية".

لماذا ما حدث في الإسكندرية يحتاج إلى "تسويات"؟ لأنه يطرح من جديد سياقا اجتماعيا مختلفا، فمصر لا تعيش "الواقع العراقي" وبالتالي لا يمكن الحديث عن انكسار اجتماعي أدى لمثل هذه الأحداث، ومصر في المقابل شهدت "تسلسلا" في التقارير التي تتحدث عن موضوع "الأقباط" فهناك سيناريو كان يتطور بشكل سريع، ويتجه نحو بناء "صدام" رغم ان المسألة لا تتعلق واقع اجتماعي حقيقي، فمسألة التنوع في مصر سارت وفق اتجاه منسجم طوال عقدين، ولكنها وجدت واقعا مختلفا في بداية السبعينات، وغض النظر عن الوقائع التاريخية فإننا يمكن أن ننظر إلى مسألة "التسويات" في هذا الإطار وفق:

أولا - التسوية الاجتماعية تعني في النهاية مسألة تجاوز قبول الآخر إلى مفهوم جديد هو التعامل معه كجزء من تعريف "شخصيتي" إن صح التعبير، فالتسوية الأساسية هي في الاتفاق على إنهاء بعض المفاهيم التي طرأت في مرحلة "تشتت" الدولة الذي شوش مسألة المواطنة، وجعلها تخضع لاعتبارات خاصة.

الثاني - فهم التسوية على أنها عودة إلى سياق حضاري وليس إلى تصنيف "المواطنة" وفق المنظور الذي يتم طرحه اليوم في مسألة "حقوق الأقليات"، فعندما ندخل في الدولة تنتهي مسألة "الرعية" وتصبح مسألة الأقليات تنوعا ثقافيا وليس تمايزا في الحقوق والواجبات، والتسوية الاجتماعية هي في قبول مفهوم الدولة والمواطنة.

هي ليست نصائح بل مسألة قلق من انهيار التكوين الحداثي الذي كان يحلم به رواد النهضة، فعندما يظهر العنف فربما علينا إدراك أن التدهور لا يشكل حدثا بذاته بل هو اختلاط نتيجة ضياع المفاهيم الأساسية وعدم تحديد الهوية أو ربما تركها لتعريفات غامضة تحيلها في كثير من الأحيان اتجاه التراث لنبتدع من رؤية ربما كانت تصلح لمرحلة زمانية خاصة.

الإسكندرية وقبلها العراق هي الصور التي يمكن أن تلازمنا مستقبلا، فهي تحدد التداخل الحقيقي في هوية المنطقة، وهي تفتح مساحة نوعية المجتمعات في شرقي المتوسط، فعندما نحاول شطب مكون منها فإنها ستتحول بشكل درامي باتجاه لا يحمل معه أي سمة واضحة، وعندما نجابه محاولة تكريس دولة دينية، مثل "إسرائيل"، فإننا لا شك سنقع في مأزق إحالة جغرافيتنا لحالة من التشتيت، وفي النهاية فإن "إسرائيل" ليست مسؤولة عن مصائبنا، ولكنها الصورة التي يجب أن تبقى ماثلة أمامنا لنعرف كيف يمكن أن يؤثر وجودها في تحديد مسارنا، و "التسوية" اليوم تبد في تحديد "الطيف الاجتماعي" الذي لا يمكننا الهروب منه لأنه ذاتنا حتى مع وجود نموذج مغلق مثل "إسرائيل".