ربما أتذكر أو ألعب على ملامح تذهب بي بعيدا، او تقلني نحو منارة تدهشني، لكنني أبقى أحلم بالظل، أو بقدرة خارقة تجعلنا طيفا متنقلا، ففي لحظات أتطلع من كنيسة القيامة، وفي دقائق أخرى يرسمني اللون على شاطئ يسكن في زاوية القلب، فما بين الإسكندرية ووجهي ألوانا يمكن أن اخترع بها لوحة لا تصدق.

كم يرحل بي الطيف وكم شردتني الكلمات لكنني مازالت أحمل مجموعة متداخلة، وأوراقا لسلامة موسى ولـ"طه حسين" ولفرج فودة، وأحضن ملامح نصر حامد أبو زيد ثم أعرف أن المسألة لا ترتبط فقط بمصر، وأننا قادرون على خلق مساحاتنا بثقافة تتصف بالإعجاز، فنكتب ونصور ونخلق المدونات والجدل الثقافي، ونلملم الإرهاب وكأنه حكاية من قصص الجن، لكن حفيف القادم يحمل لحنا لا يمكن الهروب منه، فأواجهه أو نواجهه لأننا في النهاية مهما اختلفت المسافات بيننا مضطرون للنظر غربا وشرقا، وتقيل كل القادمين فنحن من مكونون من خليط أتعب الله وبقي يتنقل تحت الضوء دون وجل.

ويسكبني الطيف أيضا في مناولة مدهشة ويحولني لطيب فوق ضريح الأولياء فأعرف صعوبة الانتماء لكل الدنيا، وأكرر تعويذة "الاسكندرية" وأنا أطوف في أزقة بغداد دون خوف، فهي التي تجعلني أجابه القلق على جغرافيتي واحتضن الماضي والمستقبل دون أن يجعلني الحاضر مدهوشة.. هي التعويذة التي يمكن كتابتها فوق وطني أو على شواطئ الإسكندرية، وهي الكلمات الباقية من صور الأبجدية الأولى ومن فضاء انتقل غربا فداعب أكثر من مرة خفقات النيل.

يسكبني الطيف لأنني اختزن الأعوام الماضية أو المشاهدة "العتيقة"، فتصبح دموعي عشقا لا يعرف سوى الحنين لزمن "الصور المنسية" فالعبور من بغداد إلى الإسكندرية سيحمل معه مشاهد لن تتكرر، وطواف لسبع مرات حول الجامع الأموي وربما تعلق بنافذة القديس بولص أو توقف أمام قبة الصخرة قل أن يحملنا الشوق لدفء الإسكندرية...

هي مدينتي التي تستطيع رؤية الجميع كما يراها القادم من الصحراء واحة، وهي التي تلامس الإسكندرية بخطوات وجلة ثم تتوقف عند ملامح لا يمكن أن تبقى غرية، فكيف يمكنني أن "اغترب" في لحظة تجمعني مع الإنسانية؟!!

اعانقها لأنها تشد يدي، ولأنها تعيد إلى مرحلة التفكير في زمن التكفير، أو تضع أمامي يوميات لهاربين من الشام إلى مصر في زمن لم يعد فيه الولاة قادرين على تحمل الكلمة... كانت هجرة قديمة لكنها تحمل حروفا يمكن أن نركبها لنتذكر كيف يمكن أن نكتب من جديد مدننا بعيدا عن قهر "طارئ" وحدث يحمل لنا الوعي الأكيد بأننا لسنا كتابا أو فقراء أو عابثين، بل ذاكرة السماء عندما تتجسد على الأرض.... كنت مدينة في الذاكرة وأصبحت تسكنين في قلب دمشق كما يسكن الحلم الدمشقي على شواطئك...