الكاتب : مازن بلال

إنه زمن ينتهي، وربما لا نستطيع إيجاد وصف آخر لما سيحدث في السودان، فالمسألة ليست في القضية السياسية ما بين الجنوب والشمال، أو حتى في "أخطاء السلطة"، وهي موجودة، مما أدى لحالة التشتت السياسي المستمرة منذ أكثر من عقد، لكن الأخطر على ما يبدو في نوعية التفكير التي تظهر وفي انتهاء زمن خاص كانت مسألة الانفصال شأنا يدخل ضمن الخطوط الحمر.

نتقبل اليوم عملية "الانفصال" رغم عدم الرضى التي تظهر في كثير من التحليلات، وهو أمر اعتدنا عليه بعد انتهاء "النظريات الكبرى" التي حاولنا رسم مستقبل العالم العربي على أساسها، ولكن السؤال هل الخيارات الحالية ابتداء من التسوية وانتهاء بتقسيم السودان هي تحديد لأهداف مستقبلية أم مجرد تداعيا للأحداث؟!
إذا كان تصفية الزمن السابق سواء في السودان و مصر أو حتى على صعيد المسألة الفلسطينية والعراقية واللبنانية هي خيارات مدروسة فنحن سنقف أمام احتمالات جديدة اخل العالم العربي، وربما سنشهد بالفعل شرق أوسط مختلف خلال العقد الحالي، وستندرج هذه الاحتمالات في فئتين أساسيتين:

•- الأولى تحويل الجغرافية السياسية في المنطقة باتجاه دول جوار الشرق الأوسط، بحيث تصبح مناطق التماس مع آسيا وأفريقيا محددات أساسية في التوازن الإقليمي، وهو أمر يحدث بالفعل حيث تلعب أثيوبيا والصراع في أفغانستان دور أساسيا، هذا إضافة لما يمكن أن ينشأ في حال ظهور "دولة كردية" انطلاقا من شمال العراق، وهو أمر ربما يوسع من حجم التماس بين الدول الإقليمية نفسها.

•- الثانية إثارة مسألة الحقوق داخل الدولة الواحدة باتجاهات مختلفة وبشكل يفقد "السيادة الوطنية" بعدها الحقيقي، فمسألة الانفصال على أساس أثني أو مذهبي سيحمل تداعيات باتجاه "مركز الشرق الأوسط، وهناك نماذج واضحة في عملية "التقاسم" و "الاقتسام" للسيادة الوطنية ليس أقلها ما يحدث في العراق أو حتى لبنان وفلسطين.

المسألة اليوم تنطلق من حدث يبدو أنه يسير بتراضي الأطراف فالشمال في السودان وجنوبه أيضا يكرران دعمهما لنتائج الانتخابات مهما كانت، وهذا التوافق يبدو غريبا وسط أزمات السودان التي خلفت صراعات عديدة، فهذا "التراضي" مهما كانت مبرراته التي شرحتها بعض التحليلات، لكن الأمر يتجاوز المساحة الاستراتيجية التي كان مسموحا ها سابقا، وهو ما يجعل الأمر ضمن إطار التداعيات أكثر من كونه خيارا مدروسا، فنحن أمام عودة لما قبل "الدولة"، رغم قدرتنا على توصيف الدول الحالية في الشرق الأوسط وتحليلها أو إصدار أحكام عليها، لكن تجربة الدولة في الشرق الأوسط لا يمكنها أن تردد مجددا إلى عصبية "القبيلة" أو "المرجعيات التراثية" وهذا ما يحدث اليوم.

الزمن السابق ينتهي لكننا لا نملك زمنا محددا ندخل إليه، فليس هناك أي تصورات مستقبلية لما يحدث، بل ربما على العكس هناك استسلاما لتداعيا الأخطاء المحلية والإقليمية والدولية، وهناك محاولة وصف وبأحسن الحالات تفسير لما يجري، لكن كل هذه الأمور لن توصل لا أطراف التسوية ولا حتى الممانعة، ولا المناصرين للإنفصال أو الذين يدعون إلى الوحدة لمستقبل واضح... المشهد السياسي يغادر بالفعل موقعه لكنه يدخل في مساحة رمادية.