الكاتب : ربى الحصري

العبث الحقيقي هو في تحليل ما جرى في تونس، فلأول مرة ربما لا نجد أية مساحة لتركيب بناء نظري خاص فيما يحدث، وتظهر التداعيات على مساحة من عدم القدرة على التحكم بـ"الشارع"، فهو قرر أن يبدأ ولكن "ثقة الدولة" كانت مدمرة، أو لنقل ثقة مؤسستها الأمنية التي على ما يبدو كانت تمل وسائلها التي تعتقد انها قادرة على التعامل مع أي مستجد، لكن آخر ما كان يتوقعه رجال الدولة في تونس هو عدم قدرتهم على وضع سيناريوهات بديلة عن العنف، وعندما أطل الرئيس "السابق" ليحمل معه حزمة تحولات كانت ثقة "الشارع التونسي" تضخمت وأصبح إحساسه بذاته أكبر من أي طروحات تظهر من الدولة.

بالتأكيد سيجد البعض إسقاطات كثيرة لكلام هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، حول مسألة الفساد خلال مندى المستقبل في الدوحة، لكن الأمر لا يحتاج لتنظيرات من الإدارة الأمريكية فهو قدم حالة تبدو حتى اللحظة غير مسبوقة، لأنها انطلقت بغض عن الحسابات الدولية، وإذا كان الفساد عاملا أساسيا في الانتفاضة فإن النظام الدولي الذي يضمن "شرعنة الفساد" من خلال مؤسسات كثير، البنك الدولي مثالا واحدا، سيجد ثورة هي خليط من التذمر السياسي والفساد الاقتصادي أخيرا عدم التحديد لموقع الدول الصغيرة داخل حالة عولمة لا مكان فيها للصغار.

وإذا حاولنا تجنب النظر من زاوية واحدة، متجاوزين أن تونس ضمن النظام العربي، فإننا سنجد أن هناك عددا كبيرا من الدول التي تقع تحت "وصاية العولمة" ثم يطلب منها التحكم بجهاز الفساد السائد، أو التأقلم مع "الارتجاج الاقتصادي" الدولي، وتلك الدول التي لم تحظ بنعمة التواجد فوق أرض غنية ستصبح مثل تونس ساحة استثمار سياحي في أغلب الأحيان، وهنا الطامة الكرى لأن السياحة وفق السياق "المعولم" هو تأقلم اقتصادي لا يتيح للمجتمع الحياة وفق سياق إنتاج يحقق مستوى "اكتفاء" إن لم نقل "رفاه".

إسقاطات الفساد التي تحدثت عنها كلينتون تصح على تونس، لكن ما يصح عليها أيضا هو طبيعة النظام العالمي الذي لا يتيح هامش حياة حقيقية بعيدا عن صرامة المؤسسات المالية الدولية، فالاقتصاد هنا يرسم خط السياسة والفساد ويحاول إزاحة مثل هذه الدول إلى مناطق أخرى لا علاقة لها بالاهتمامات العالمية.

بالتأكيد ليس الرئيس التونسي خارج المسؤولية، ولم يكن مغلوبا على أمره، وهو حكم البلاد طوال المرحلة الماضية كي تتأقلم مع كل المعطيات البعيدة عن المصالح الاجتماعية، فلم يكن هناك خيارات سياسية أو اقتصادية، ونحن هنا نحاول الإضاءة على جانب آخر من مسألة الفساد التي تحدثت عنها كلينتون في منتدى المستقبل، لأنها قدمت "وعيدا" إن صح التعبير لكنه مرهون بنوعية السياسات الكبرى، فعندما تبدو الديمقراطية "نسقا أمريكيا" فقط فنحن بالفعل أمام "ضيق المساحة" السياسية، لكن التجربة التونسية ربما تطرح أمرا معاكسا لا يحتاج إلى تحليل، بل لقراءة طبيعة المؤسسات الدولية التي تتعامل مع الدول كمناطق نفوذ، وعندما يرحل الرئيس التونسي فإنه لا يقدم نموذجا مستبدا فقط بل أيضا صورة لطريقة "صناعة المستبد".