الكاتب : نجيب نصير

ربما كان من قدر صانعي الأفلام التسجيلية، أن لا يكونوا خلف الكاميرا فقط، بل يقبعون في مكان غائر أو منسي بالنسبة لموضوع أفلامهم، ليبدو الأمر كمسألة تعاقدية، يعطي فيها صانع الفيلم التسجيلي الأولوية لموضوع فيلمه مهما كان هذا الموضوع، راضيا بإيصال الرسالة كهدف رئيس ونهائي لإقدامه على صنع فيلم تسجيلي، ربما كان هذا ما حدث في عرض فيلم هالا محمد (قاسيون متعبا) الذي عرض في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق في 27- 1-2011 الذي تتناول فيه المخرجة جانبا من حياة الشاعر السوري محمد الماغوط، عبر تيمه أدب السجون التي تبدو مقترحة من قبل الممولين، حيث بدا الماغوط مقسورا الى حد ما على الاتكاء على فترة سجنه (في خمسينيات القرن المنصرم) لكي ينسجم الفيلم مع أطروحة الممولين، وهو أمر ليس سيئا، فالماغوط وعلى الرغم من فترة سجنه القصيرة نسبيا والسهلة نسبيا أيضا (كم كف وكم لبطة حسب تعبيره)، إلا أنه ينبه إلى مسألة في غاية الأهمية وهي مبدأ السجن ذاته، المبدأ الذي حدا بصانعة الفيلم الى اعتبار الماغوط أدبا وحياة نتاج السجن الذي لم يزل يكبله حتى بعد خمسين سنة أو أكثر من تاريخ إطلاق سراحه .

وعلى هذا الأساس بدأ الماغوط بنسج حكاية ساذجة عن حياته، حكاية تريد القول أنه شخص بسيط وساذج، وما إنتاجه إلا تعبير عن روح قوية وحسب، تستخلص طاقتها المعرفية من أدنى سلم العمليات المعرفية، باعتمادها على موهبة فطرية ما، خصوصا وبالالتفات الى قصة صوبيا الحزب القومي المختلقة والتي تعرضت الى تعديلات غير طفيفة بالفيلم، حيث بدا مكر الماغوط أكبر من أن يغطيه بطرائف (او نهفات) مشاكسته المفتعلة أو حتى المدعية، في محاولة لرسم أيقونة بريئة لإنسان استثنائي، ربما استمتعت العامة بها .

ولكن هل كان الماغوط بريئا وأميا في الحقيقة؟

لا لم يكن كذلك، فالنتاج الماغوطي لم يكن على أية درجة من السذاجة المعرفية، على الرغم من كميات التنبلة في كسب المعرفة التي أراد إظهارها، في محاولة لجعل الإبداع أو تحديدا مواده الأولية هي نتاج شخصي له، ولكن معرفة الماغوط لا يمكن أن تخضع لمجرد تقديمه هو لذاته على هذا الشكل أو ذاك، فالدراسات الأدبية التأريخية منها والنقدية تستطيع اكتشاف نوعية البراءة التي أراد الماغوط أيقنتها واستجابت له المخرجة صانعة الفيلم إخلاصا للتيمه المطروحة، ولكن الماغوط (المسرحي والسينمائي) لم يكن ذاك الحمل الوديع أمام كميرا حاصرها هو بسبب اعتلال صحته واعتلال مزاجه المدعى، ليبدو الإدعاء نفسه طاقة حركية ذهنية ماكرة وحيوية، خصوصا في المشهد الأخير حيث يبدو الماغوط مودعا محبيه وشامتا بهم في آن معا .

بعد عرض الفيلم بدا النقاش أو الحوار الذي أقترحه كل من د. حسان عباس ، والمخرج أسامة محمد ، منحصرا في البحث عن دور لهالا محمد صانعة العمل، وبدت هذه اللحظة مأزقيه بالنسبة للحضور، فهالا وفي الحقيقة العملية هي الفيلم، هي من أوجدته وصنعته ودون ارتجال، حيث بدا ما أرادت توصيله قد وصل بالفعل، وفي هذا تحديدا يكمن النجاح، وليس في إعادة سرد كمية التعب أو الخصوصية التي اكتنفت التجربة الفيلمية، وربما كان من الأجدر أن يدور الحوار حول العلاقة المعرفية التي نسجها الفيلم بين هالا والماغوط، في إعادة بنائية للتعريف بالماغوط من وجهة نظر عاملة في الحقل الإبداعي، ومن هنا أيضا توقف الحوار عن أي فيلم نبحث أو نقترح مع أن الفيلم قد أنجز وانتهينا والماغوط مات ولم يعد من فرصة لإعادة نسج فيلم يعتمد على آراء الآخرين ، نقديا أو حرفيا، إلا إذا ارادة هالا إعادة المونتاج أو إعادة استخدام كل ما تم تصويره .

أعتقد أننا شاهدنا فيلما تسجيليا ماهرا، حتى ولو كان كل ما فيه من عرض هو على مسؤولية الماغوط وهذه نقطة تسجل لهالا، احترامها حرية الماغوط وهو يسجل ما يريد عن حياته هو كما يراها مندهشا من إمكانية (البني آدم) على سرد حياة طولها 70 عاما في خمس دقائق، ولكن يبقى السؤال الذي أثاره فعلا الفيلم، هل كان الماغوط بريئا الى هذا الحد؟