الكاتب : سها مصطفى

قد يكون البوعزيزي هو من أشعل نيران الثورة في تونس، لكن المؤسسات المدنية هي من تلقفت تلك الشعلة وحملتها راية في مواجهة العسف والبطالة، أمام انتشار انفلونزا البوعزيزي في اصقاع تونس، من خريجي الجامعات وحملة الشهادات الجامعية الذين يشكون البطالة والفقر والجوع!

تلك الثورة قادت نحو تغيير لم ينته باستبدال رموز بأخرى من الرعيل القديم، رغم تاريخ التنكيل الذي تعرضت له على مدى السنوات الماضية، في ظل دعم نظام بن علي وقبله بو رقيبة للتيارات الاسلامية في تونس والحركات السلفية في مواجهتها، لتخوض معها معركة طالت الحفاظ على بعض المكاسب التي تحققت في عهد الديكتاتور بورقيبة كمنع تعدد الزوجات وبعض الاصلاحات في التعليم والصحة، رغم كل التضييق الذي تعرضت له من منع الحزب الشيوعي من أي نشاط سياسي علني منذ 1963 ومنع صحافته ومضايقة أعضاءه، و ضرب الاتحاد العام للفلاحة التونسية وسجن العديد من مناضليه وقيادييه وتعويضه بالاتحاد القومي للفلاحين سنة 1956، وإقالة احمد بن صالح من الأمانة العامة لاتحاد الشغل واحتواء قياداته النقابية وبالتالي احتواء الاتحاد العام التونسي للشغل.

لتكون النتيجة افراغ المجتمع التونسي من مؤسساته المدنية بتعريض مئات الجمعيات الثقافية والصحافة الوطنية والكشافة التونسية بعد الاستقلال مباشرة إلى المراقبة، الأمر الذي أدى إلى انحسارها وغيابها الفكري والسياسي، وبدأ المدخل عريضا وواسعا وجاهزا نحو التيارات الاسلامية والسلفية، من حركة النهضة التي تزعمها الشيخ راشد الغنوشي المؤسسة 1981 والتي تشكل نموذج الاسلام السياسي برفض فصل الدين عن الدولة، والحركة السلفية لمؤسسها الخطيب الادريسي القادم من السعودية بعد عمله في التمريض، والتي توصف بأنها في تصاعد صامت داخل مساجد تونس، وحزب التحرير الإسلامي المؤسس عام 1953 في مدينة القدس على يد تقي الدين النبهاني المنشق عن الاخوان المسلمين، وجماعة التبليغ القادمة الى اواسط تونس في سبعينيات القرن الماضي، وحركة التشيع التي يتقاسمها التيجاني السماوي وعماد الحمروني ’جمعية آل البيت الثقافية’، واخيرا وليس آخرا الاسلاميون التقدميون الذين يشكلون نقطة اختلاف عن التيارات السابقة في انفتاحهم على الاشتراكيين والليبراليين.

لكن لتونس تاريخها وتنوعها باطيافها السياسية التي استمرت بطريقة أو أخرى، مع مساهمة المجتمع المدني التونسي منذ الاحتلال الفرنسي، ممثلا بالحزب القديم والحزب الشيوعي والحزب الجديد والجمعيات كالكشافة والهلال الأحمر، والجمعيات الثقافية والنقابات كاتحاد الشغل واتحاد عملة القطر التونسي واتحاد الفلاحين واتحاد الصناعة والتجارة، واتحاد الطلبة منذ 1953 وغيرها مساهمتها في النضال ضد السياسة الاستعمارية، ودورها في قضايا مساعدة أسر المساجين وحمايتهم، ذلك الدور الممأسس على التجربة والمراكمة يشكل وعي مفهوم المواطنة والمجتمع والدولة، وقف في مواجهة محاولات التخريب لمؤسسات الدولة من قبل النظام الاسبق ورجاله مع اندلاع الثورة، في فهم لمكونات الدولة والشعب ورموزهما وليس المزج المتعمد الساذج بينهما، المدخل الى ذلك ينطلق من الديمقراطية والحداثة، الاصطلاحين الاخيرين امام غيابهما من معجم الدول العربية، تصبح الحالة التي تناولها بوعلي ياسين في كتابه شمسات شباطية بديهية، عندما هاجم أحد الاشخاص المتطرفين في دولة عربية بعد الاستقلال عامود كهرباء وشرع بلطمه ولعنه لانه من بقايا الاستعمار الفرنسي!