الكاتب : نجيب نصير

من ناحية البطالة والرزق تبدو حوادث المرور كمصائب قوم عند قوم فوائد، فأصحاب محلات تصليح وحدادة ودوزان ودهان السيارات ينعمون بالعمل والرزق وكذلك أصحاب محلات قطع التبديل ومستوردي هذه القطع الذين يدفعون بالعملة الصعبة أثمانها مقتطعا من الدخل القومي طبعا كل ذلك (ماشي الحال)، أما أن تكون الأرقام دليل على مجزرة، فالأمر يتجاوز الملاحظة، او النقد البناء، أو فضح التقصيرات الخ فرقم 2118 قتيل الذي نشرته جريدة تشرين كنتائج لحوادث السير لعام 2010 هو مجزرة بكل المقاييس الاجتماعية خصوصا إذا قرأنا في الجريدة نفسها أن عدد الحوادث المسجلة (فقط) في العام نفسه هو 31492 حادثا، لنبدو أننا أمام حال من العته في استخدام تقنية بسيطة وقديمة من تقنيات هذا العصر.

ماذا هنالك؟ كي يسقط هذا العدد من القتلى؟ حتى أن الغريب القادم الى بلدنا يلحظ تلك الكثافة في أعداد شرطة السير ومع هذا يبدو الرقم مجفلا، لتبدو المسألة تتجاوز شرطة المرور أو وزارة المواصلات المسؤولة عن إقامة الطرق وصيانتها، لتصبح معبرة عن عقلية وثقافة اجتماعية تنتمي الى ما قبل السيارة كوسيلة مواصلات، إذ لا يمكن للمجتمع القبول بهذه معدلات للحوادث ومع هذا لا يمكنه القبول بالتزام قواعد السير الصحيحة المكملة لوجود السيارة كآلة مفيدة، خصوصا أن شرطة المرور لا تشكل ضمانة حقيقية لمجرد (قمعها) للتجاوزات، فالالتزام بأنظمة المرور يجب أن ينبع من قناعة اجتماعية جماعية وعلنية ناتجة عن ثقافة معاصرة مستوعبة لهذا التغير في سرعة الإنسان، ولهذا التغير التقني المرتبط بوجوده.

من يسمع أو يرى تفاصيل حوادث المرور المفجعة يدرك تماما أن قيادتنا نحن الشعب (وشرطة المرور منا) للمركبات، قيادة انتحارية جزافية عبثية حمقاء وعصابية، وهذا لا يعني أن هؤلاء الضحايا مسؤولون لوحدهم عن مصائرهم المفجعة هذه، حيث تنعدم المسؤولية عنهم بعد مغادرتهم دنيانا إذا كانوا من السائقين، اما بقية الضحايا فالمسؤولية عرضية كمسببين بالمصادفة الرعناء، كسائقي الباصات والشاحنات وداهسي المشاة، فالموضوع قسمة ونصيب على الرغم من تنافره وتعاكسه مع مجرد وجود السيارة وتعلم الجلوس خلف مقودها.

2118 وفاة في عام واحد!!! هذا إذا تناسينا أعداد المصابين والمعاقين والمتعطلين، بالفعل نحن نواجه مصيبة حقيقية، لا تحل إلا بارتقاء الثقافة الاجتماعية، مهما أكثرنا من شرطة المرور ومهما غلظنا العقوبات (التي تعني ارتفاع أسعار غض البصر).

والثقافة الاجتماعية لا ترتقي على رتل أو طابور، أي أنها لن ترتقي في ثقافة المرور لوحدها، بل بقبول وتمثل نسق الثقافة الحداثية التي صنعت السيارات كاملا دون استثناءات أو تأويل أو استنساب، إما هذا أو الارتقاء بعدد الجنازات الناتجة عن حوادث المرور العبثية تلك. والموضوع ليس أخلاقيا هنا، بل التزام طوعي وحقيقي وصادق بمستلزمات قيادة السيارة التي يحددها القانون ، الذي إذا أحجمنا عن الالتزام به وبدقة واختيارية ومجموعية، فإنه علينا بقبول الجنازات والمصابين والمعاقين كقسمة ونصيب وكفى الله المؤمنين شر الانضواء تحت القانون .

يمكن أن تكون النار كتقنية أولى لنا كبشر خيرا وشرا في آن معان وهذه بدهية عرفتها البشرية منذ ولادتها، وتتابع وجود التكنولوجيات المسهلة لحياة البشر الى يومنا هذا، وعلينا كمجتمع بشري الاختيار بين النار كخراب وحرائق، وبين نار التدفئة والطبخ والصناعة.

لو تعمقنا قليلا بالنتائج الاقتصادية والاجتماعية لحوادث السير سوف نحصل على مصيبة موازية قد يتصاغر أمامها ألم اللوعة والفجيعة الناتج عن الوفيات فهذه آلام فردية لا توجع إلا أصحابها، أما المصيبة الموازية تلك فتخص كل أبناء المجتمع.

(بقى شو رأيكم؟ هل تريدون المحافظة على هذا الرقم القياسي أم تريدون تطويره إلى رقم أعلى مع ازدياد أعداد السيارات المستخدمة؟ أم عليكم الخروج من هذه الثقافة الكارثية التي ما زلتم متمسكين بها؟ ولا أحد يقل لي أن جزئية بسيطة من تفاصيل الحياة، فالثقافة المعاصرة حزمة كاملة إما أن نأخذ بها أو تأخذ ... أرواحنا)