الكاتب : نجيب نصير

هل سمع أحدنا أن دولة بلجيكا عاصمة الإتحاد الأوربي، ومقر حلف الناتو، أنها بلا حكومة منذ أكثر من مائتي يوم؟

هل سمع أحدنا أن دولة بلجيكا توقفت يوما واحدا عن الإنتاج و التصدير؟ أو هل أغلق مطار بروكسل أو ميناء أنتورب؟ وتوقفت السكك الحديدية، وتسجيل المواليد أو استصدار جوازات السفر؟ هل ظهر قلق على المخزون القومي من الغذاء أو الكهرباء أو توقفت حركة الشارع على أساس أن هناك عطلة إجبارية تفترضها حالة عدم وجود حكومة؟؟؟؟

لم يحصل شيء من هذا لا بل أن الشعبين البلجيكيين الفرانكوفوني والفلمنكي خرجا الى الشارع احتفالا وسخرية من السياسيين المحترفين ومن الأحزاب السياسية، كي يتناولوا البطاطا المقلية الرمز البديهي الذي يتفق عليه البلجيكيون جميعا كجزء من ثقافتهم (خصوصيتهم)، معتمدين على المؤسسات في إدارة شؤون البلاد ، من دون الحاجة الى وزير أو رئيس وزارة او ما يماثلهم من السياسيين.

طبعا لن تبقى بلجيكا بلا حكومة فهذا أمر من بدهيات الدول، خصوصا تلك الدول التي يكون فيها المسؤول هو الشخص الذي يمكن سؤاله، ولكن غياب حكومة يعمل (مثل الساعة) يطرح سؤلا جديا حول ضرورتها في مستقبل الأيام، فالمؤسسات التي أنتجتها الثقافة الاجتماعية تبدو كافية للمحافظة على استقرار اجتماعي لا ينتظر من الحكومة رعايته على نحو إسعافي، فحتى الخلاف الفلمنكي الفرانكوفوني الخطير يبدو قابل للحل في خضم ثقافة اجتماعية واضحة وعلنية ولا تحتاج الى مفاوضات سرية وتنازلات ومكاسب، لسبب أنها ناتجة عن قاعدة ثقافية ترفض إلغاء الآخر تحت أي مسمى، وفي توفر هذه القاعدة يبدو التكاسب أو الحذلقات السياسية الماكرة ليست على بال أحد، فالآخر هو جزء من الذات وإلغائه يعني إلغاء الذات أيضا .

المهم أنه حتى "البطاطا المقلية" قادرة على لم شمل المتخالفين من أبناء المجتمع/الوطن الواحد، ليصبح السؤال هل اللغة أهم من الوطن؟ أم أن البطاطا المقلية هي لغة بحد ذاتها يستطيع أن يتفاهم بها الجميع.

ماذا سيفعل أحد وزراء العالم الثالث فيما لو زار بلجيكا ولم يلق وزيرا في استقباله؟ هل ستفشل محادثاته هناك؟ وماذا إذا فشلت؟ هل سيقبل التوقيع على ورقة واحدة مع مدير عام وزارة أو ربما مسؤول علاقات عامة في حال نجحت المباحثات وتم الاتفاق؟

على ما يبدو (ماحدا سائل) هناك، فالقيمة الحقيقية هي في العمل والإنتاج، وممارسة النظام العام دون الحاجة الى هيبة أو رعاية.... فالشعوب تصل الى سن الرشد أيضا.