الكاتب : حسان عبه جي

استخدام الرئيس الليبي معمر القذافي ومن قبله نجله سيف الإسلام لعبارات مثل عقارات الهلوسة والمخدرات تبدو بالفعل للاستغراب، ليس لأن هذا الأمر مجرد كلام فقط بل لأنه على ما يبدو يشكل ركيزة للتعامل مع مسألة الاحتجاجات والتظاهرات التي تطورت لتصل إلى ثورة امتدت على طول الأراضي الليبية، فالخطاب السياسي الليبي الرسمي لا يستخدم على ما يبدو مسألة "الهلوسة" بشكل إعلامي فقط، بل هو أيضا طريقة في التفكير بكل من هو مختلف عنهم سواء بالرأي أو بالاتجاه.

ما يحدث هو محاولة "احتماء" بقناعات ستبدو للمستمع غريبة، لكن ليس هناك أي شك بأنها متجذرة في عقول من يستخدموها، فبعد أربعة عقود على ثورة الفااتح من سبتمبر ربما علينا استيعاب أن من قام بها يعيش في زمن الثورة التي توقف عندها الزمن، وهو أمر لا يوجد ما يشبهه في المنطقة عموما، فكل الحركات والثورات أو حتى التيارات التي ظهرت في الشرق الأوسط عموما مرت عليه أزمنة مختلفة باستثناء ليبيا، في كل مراحلها هي داخلية وتشكل عجزا عن بناء رمز حقيقي، رغم أن "الثورة الليبية" بذاتها حملت "صدقا" عندما ظهرت، لكننا لا نستطيع التفكير بها اليوم وكأنها تحدث الآن دون أي تحول في الظروف الخاصة بها.

الحيرة والغضب الذي ظهر بهما الرئيس الليبي أمس تؤكد بقائه في الزمن القديم، رغم أن نجله خاض جولة العلاقات الدولية خلال السنوات الماضية بعيدا عن "روح الثورة"، لكن الزمن لا يرحم الثورات ولا الحركات ولا حتى الاتجاهات الفكرية، ففي النموذج الليبي يتضح وبشكل مفاجئ حجم التناقض الذي يتركه الزمن على التحولات التي كانت تعتبر في مرحلة ما تاريخية.

نحن بالفعل أمام "خطاب" سياسي طرحته الجهات الرسمية الليبية يدفع المتابع للحدث إلى التفكير، وإلى محاولة سبر تلك المصطلحات التي تدعو للسخرية لكنها تشكل واقعا قاسيا، فهي تفضح "الفجوة" التي ظهرت نتيجة تحرك الزمن وبقاء الحراك السياسي في نفس النقطة التي أراد الانطلاق منها، والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذا الأمر يقتصر على "التفكير السياسي" الليبي؟ نحن نملك نماذج لتكرار هذه الظاهرة وعلى الأخص في مناطق الاحتكاك مع سرعة الحدث، ويبدو لبنان نموذجا آخر حيث بقيت التركيبة السياسية التقليدية عند نفس النقطة منذ عام 1943، ونستطيع إيجاد تشكيلات سياسية في طرفي المعادلة اللبنانية ماتزال تقف عند نفس النقطة القديمة، وحتى بالنسبة للنخب على امتداد العالم العربي فهناك تفكير عبره الزمن لكنه مازال قادرا على إنتاج خطابه.

هذا الواقع هو الذي صدم البعض بعد أحداث مصر، وهو الذي جعل الكثيرين يستفيقون على إيقاع خطاب مختلف ومن الصعب التواصل معه، وحتى أولئك الذين أرادوا فهم ما يحدث وجدوا أنفسهم أمام شرائح اجتماعية تتحرك خارج السياق التقليدي، ولكن الزمن المختلف أيقظنا من جديد على إيقاع عصري علينا التأقلم معه، وفي نفس الوقت دفعنا للتفكير بالسلوك الاجتماعي أولا وأخيرا، فما يتحدث عنه الرئيس القذافي هو في النهاية صورة كانت تضحكنا لأنها تأتي ككسر لصرامة السياسة لكنه في الواقع لا تحمل معها سوى ملامح الزمن القديم.