نشرت صحيفة إندبندنت البريطانية مقالا للكاتب بيتر فوهام يصف فيه الوضع في ليبيا بالقول: إنه لأمر مروع أن نتذكر كيف كانت العواصم الأوروبية تستقبل جزار طرابلس -على حد وصف الكاتب- بالحفاوة والتكريم.

قبل حوالي ستة أشهر فقط كان يجمع حسناوات روما في السفارة الليبية محاولا جرّهن إلى الإسلام. وقبل ذلك بثلاث سنوات كان كل من (رئيس الوزراء البريطاني السابق) توني بلير والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يحتضنانه بكل ما في الكلمة من معنى.

أما فضيحة عودة عبد الباسط المقرحي فلا تزال حية في الذاكرة. بريطانيا، وكما قال رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون أمس من الكويت ’واجهت خيارا صعبا في الاختيار بين مصالحها وقيمها. ولم يستغرق الأمر طويلا لنتخذ القرار’.

سلاح الردع النووي

ويمضي الكاتب بالقول، لكن الفراغ الذي تشهده الساحة الليبية اليوم -في محاولة لتصور ما قد يحدث بعد القذافي- يساعدنا على معرفة سبب إقدام القذافي على وقف جهوده المضحكة لبناء سلاح ردع نووي، والسبب هو أن زعماء أوروبا كانوا على استعداد لبيع ما تبقى من كرامتهم للحصول على شريحة من الكعكة الليبية.

لأكثر من أربعين سنة، دأب القذافي على ضمان استمرار حكمه القائم على القمع الوحشي عن طريق دفع الرشى من أموال النفط، لذلك لم يكلف أحد نفسه عناء التحقق مما يحدث في بلاده.

كان ’نظاما متطلبا للغاية’ -على حد تعبير كاميرون المخفف- واستمرار العلاقة معه يحتاج إلى كثير من العمل.

فأما أن تتساهل مع نزوات العقيد القذافي التي لا تعد ولا تحصى -الإرهاب الجوي، وعشيقته الأوكرانية، وإصراره على استخدام الجمال والخيام- أو أن تسقط ليبيا من قائمة أصدقائك. ومن أجل النفط والغاز، حرصنا على كسب رضا القذافي.

حدثت في ليبيا نفس عملية ’التفريغ’ التي حدثت في مصر في عهد حسني مبارك، ولكنها كانت أكثر تدميرا في ليبيا تحت حكم العقيد القذافي، لأنه كان يحكم بلدا صحراويا قليل الكثافة السكانية كان يعيش طبقا للتقاليد البدوية حتى وقت قريب. لم تكن هناك دولة لتشاركه في الحكم.

ما بعد البداوة

ادعى العقيد معمر القذافي نقل ليبيا إلى مرحلة ما بعد البداوة، في وقت كان يقوم بمجاملة عشيرته. لكن في الحقيقة، فإن الاستحواذ على الثروة النفطية واستخدام الولاءات القبلية لا يزال موجودا ولكنه تحت الرماد.

لقد نجح العقيد القذافي بامتياز في تقديم نفسه كطاغية قاهر. لقد كان موقفه دائما أكثر خطورة من موقف نظرائه الاستبداديين في تونس والقاهرة، رغم أن الوضع كان يبدو في ظاهره وكأنه يوحي بالعكس.

أحاط نفسه بأبناء عشيرته القذاذفة وحرص على تسنمهم المراكز القيادية في الوحدات العسكرية الرفيعة التدريب والتسليح. لكن قبيلته في وضع عدم تكافؤ عددي مع القبائل الأخرى مثل قبيلة الورفلة التي يبلغ تعدادها حوالي مليون شخص من أصل سكان ليبيا البالغ عددهم ستة ملايين نسمة.

فنون الرشوة

يقول الكاتب إن العقيد القذافي ولغرض تحييد الأخطار التي كانت تتهدده أصبح يتقن فنون رشوة القبائل بحيث يضمن ولاء الورفلة، بينما يقحم القبائل والأعراق الأخرى الموجودة في البلاد في حالة صراع دائم. حرص على إضعاف الجيش، وحصر الرتب العسكرية بما دون عقيد ودس المرتزقة الأفارقة في صفوفه. هناك اعتقاد واسع بأنه استخدم طيارين صربيين في إنهاء انتفاضة إسلامية في تسعينيات القرن الماضي.

في نفس الوقت، قام ببناء قوات شبه عسكرية وحشية وجهاز مخابرات هائل حتى بمقاييس المنطقة العربية. كان الزائر لطرابلس يلاحظ بوضوح عددا مذهلا من الشبان ليس لهم عمل سوى الوقوف والتحديق في كل شيء.

إن فكرة إمكانية العمل مع القذافي كانت من صنع توني بلير، وهو أمر يعكس ما يمكن أن نتوقعه من قادتنا الأكثر سطحية من القذافي نفسه بعد أن شجعوه على المضي في استعراضاته.

ويبرز الكاتب فكرة أن الادعاء بوجود سياسة خارجية أخلاقية من جهة وفرش السجاد الأحمر لذلك الوحش -على حد تعبير الكاتب- من جهة أخرى هي واحدة من فضائح العصر.

ابتزاز أوروبا

إن المهتمين بالشأن الليبي سوف يتذكرون كيف أعطى القذافي الضوء الأخضر للمهاجرين غير الشرعيين لعبور ليبيا إلى إيطاليا وأوروبا، حتى أجبر (رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو) برلسكوني على توقيع اتفاقية تعويض سخية عن فترة الاستعمار الإيطالي، وبعد ذلك بدأ يلقي بالمهاجرين غير الشرعيين في سجونه.

وسوف نتذكر كيف أنه سمح لتهم عبثية ضد مجموعة من الممرضات البلغاريات في البلاد أن تستمر لسنوات ولم يفرج عنهن إلا بعد عملية ابتزاز واضحة لأوروبا.

بعبارة أخرى، لقد كان القذافي يتصرف وكأنه زعيم مافيا، ومرة أخرى، من أجل النفط سمحنا له بالتلاعب بنا.