الكاتب : طه عبد الواحد

على خلفية موجة التغييرات التي يشهدها العالم العربي، وسقوط أنظمة الحكم في تونس ومصر، وبانتظار ما ستؤول إليه الأمور في ليبيا، دأب الخبراء والمحللون الدوليون على عرض مختلف القراءات لما يجري.

غريغوري ميلاميدوف مستشرق روسي عرض في بحث نشرته وكالة الأنباء الروسية "نوفوستي" قراءته الخاصة للحدث، التي يشير فيها إلى أن "كل طرف يرغب أن يرى في الأحداث التي تعصف بالعالم العربي ما يؤكد نهجه السياسي. ففي إيران ينظرون إلى ما يجري على أنه استمرار للثورة الإسلامية، على الرغم من أنه لا في مصر ولا في تونس ولا حتى في ليبيا لم يكن الإسلاميون الجهة المنظمة للثورات الجماهيرية. بينما يحاول الغرب والليبراليون الروس النظر إلى الأحداث باعتبارها سعي الجماهير نحو الديمقراطية. ويشبهون ما يشهده العالم العربي حالياً بما شهدته بعض الجمهوريات السوفييتية السابقة في السنوات الأولى لاستقلالها".

ويؤكد ميلاميدوف أن الديمقراطية الغربية-الأميركية ظاهرة غير مقبولة وغريبة على الشارع العربي، مُذكراً بما قاله شاه إيران الذي عبر عن إعجابه بالديمقراطية في السويد، فسألوه لماذا لا ينشر مثل هذه الديمقراطية في بلاده فأجاب: لأن أبناء بلدي ليسوا سويديين. أجل قد لا تكون الديمقراطية كما يراها الغرب مقبولة في المجتمع العربي، لاسيما عندما تأتي هذه الديمقراطية بأسلوب الفرض من الخارج وتُسخر الدعوات لنشرها كذريعة لتدخل القوى الغربية بشؤون الغير، لكن هذا لا يعني أن الشعوب العربية لا تسعى إلى الديمقراطية، بل تريدها لكن بما يتوافق مع تاريخ الشعب العربي وثقافته وقوانينه الاجتماعية وعاداته وتقاليده. على سبيل المثال تحولت الديمقراطية الغربية بأيدي الإعلاميين في الجمهوريات السوفييتية سابقاً نهاية التسعينيات إلى "وقاحة وتدني أخلاقي" في الممارسة المهنية وأصبح كل شيء مستباح عبر وسائل الإعلام دون أي اعتبارات للقيم والأخلاق الاجتماعية.

الأمر الذي ما زالت المجتمعات في تلك الجمهوريات تعاني من نتائجه السلبية حتى يومنا هذا.

وفي حديثه عن أسباب انتشار الثورات المطالبة بتغيير أنظمة الحكم في بعض الدول العربية يدرج ميلاميدوف ما يلي، أولاً: لم تتمكن الدول العربية، حتى الآن، من شغل المكانة المناسبة في العالم الذي يتغير اقتصاده بوتيرة متسارعة. بينما تعجز دول النفط العربية عن التخلص من "الإدمان" على الاقتصاد النفطي. وفي ظل عدم القدرة على مواكبة تغيرات الاقتصاد العالمي في بعض الدول العربية يعجز كثيرون من خيرة الخبراء والمهندسين والباحثين العرب عن تقديم ما يملكونه من معرفة وخبرة في دولهم وهو ما يدفعهم إلى الهجرة، أو يبقون في بلدانهم شبه معطلين لعدم توفر إمكانية الاستفادة من خبراتهم وتسخيرها لخدمة البلد. بعبارة أخرى يمكن القول إن بقاء الطاقات العلمية خاملة غير مستغلة، ومعاناة حملة الشهادات الجامعية من البطالة واحد من الأسباب الرئيسية لما يشهده العالم العربي من تحولات.

أما السبب الأهم الذي أثر على مزاجية الشارع العربي، لا سيما في الدول التي شهدت ثورات شعبية، فهو على صلة بالصراع العربي -الإسرائيلي وتولد شعور بالإهانة بين العرب بسبب سياسات أنظمة حكمهم وعجز الدول العربية مجتمعة عن هزيمة إسرائيل وتحرير فلسطين. وعوضاً عن الالتفاف حول القضايا المصيرية للأمة العربية وتقديم العرب الدعم لبعضهم البعض في مواجهة القوى الخارجية الطامعة، شهد العالم العربي حالة انقسام مؤلمة ما زالت قائمة، وبدأت منذ إعلان بعض الدول العربية تأييدها للحرب الأميركية على العراق والإطاحة بحكم صدام حسين، مقابل وقوف دول أخرى إلى جانب العراق، رافضة من حيث المبدأ شن دولة أجنبية عدواناً على دولة عربية. وقد رأى كثيرون في هذا الانقسام نهاية للفكر القومي العربي، أو ضربة مؤلمة ستتطلب سنوات طويلة بعدها لإحياء الفكر القومي العربي من جديد.

ومع تراجع الفكر القومي العربي وتأثيره مرحلياً، ظهر ميول في الشارع العربي نحو تسييس الإسلام وجعله العقيدة التي تخوض الجماهير العربية نضالها لاستعادة حقوقها وبناء ذاتها على أساسها. وهنا لم يلب هذا التوجه تطلعات الجماهير العربية، إذ عملت قوى خارجية على دعم القوى الإسلامية المتطرفة لتجعل من الإسلام أداة تستغلها لخدمة مصالحها، وعقيدة للقتل لا للحياة، مثال على ذلك أفغانستان وما تشهده منذ ظهور طالبان والقاعدة فيها، وهو ما حدث بدعم وتسهيلات غربية يُقر الغرب بحقيقتها.

بناء على ما سبق يقول ميلاميدوف أن "موجة الثورات الحالية التي تجتاح الدول العربية ليست سعياً للديمقراطية حسب رؤية الغرب ولا نحو الأسلمة كما يظن كثيرون، بل هي ثورة لاستعادة الكرامة" على مستوى الفرد وعلى المستويين الوطني والقومي.