الكاتب : ربى الحصري

القراءة الواضحة لما يجري في المجتمعات العربية تحدث بعيدا عن المشهد السياسي، فعندما نسير على إيقاع البث المباشر للثورات من تونس إلى اليمن فنحن أيضا نتجاهل "البيئة" التي يتم إنتاجها وسط التركيز فقط على الشعرات السياسية أو تطور الحدث، وربما لا يستطيع الإعلام الخروج من عملية التركيز والتكثيف والتنميط أو النمذجة، فهي أدواته الأساسية في عملية الاتصال، لكن في المقابل فإننا أمام "عمليات كبرى" إن صح التعبير، لأن هذه الثورات تهدف إلى "تغيير النظام" وضمن ظروف متباينة ومختلفة من دولة لأخرى.

الملاحظة الأولى أن "السلوك" العام للأفراد في تلك المجتمعات (تونس، مصر، الأردن) شهد تحولا منذ بداية الاحتجاجات إلى الآن، وهذا "السلوك" بدأت تغذيه دوافع متعددة نتيجة "الفضاء الجديد" الذي يمتلكه، ففي البداية كان الأمر يتعلق بدافع وحيد هو "رحيل النظام"، وفي نقطة خاصة تبدل الأمر وأصبحت حالة "التحول" تحمل معها إمكانيات مختلفة، وهنا ظهرت مجموعة الدوافع التي مثلت طيفا من "المطالب" و "الآفاق" والمحاولات لتشكيل "تنظيمات"، فظهر المجتمع في "حراك سياسي - اجتماعي" غير مسبوق، وهو ما يفسر الرغبة في جعل أيام "الجمعة" مناسبات عامة كنوع من الاستمرارية للحراك أو تعبئته عند نقطة مركزية.

في المقابل فإن "الزمن المختلف" بدل الكثير من معايير النظر إلى العوامل الاجتماعية أو السياسية القديمة، فهي في النموذج المصري مكونات يمكن التعامل معها بطريقة مختلفة مثل "الإسلام" ودوره في العملية السياسية، أو في خلق عملية فصل ما بين التعبئة عبر الموروث الديني والحراك اليومي من أجل رسم نظام، أو ربما أنظمة، مختلفة.

في النموذج العراقي الذي دخل على خط "الزمن المختلف" فإن النظام السياسي المختلط والمعتد على الديمقراطية المذهبية! (مع التحفظ على المصطلح) فإن الاحتجاج أو التظاهر هو أيضا لإسقاط طبقة سياسية بعينها، ومن جانب آخر فإنه تمرد على المرجعيات التي شكلت خلال المرحلة الماضية سقف الحياة العامة سواء كانت دينية أو قبلية، ولكن علينا الحذر في استخلاص النتائج من النموذج العراقي، ليس لأنه الأعنف بل لأنه يسير على "رسم" وضعه الاحتلال، لكنه في المقابل قدم قدرة على تجاوز "الحساسيات المفروضة" من قبل الاحتلال أو النظام السياسي السابق ليحدد طريقا مختلفة في البحث عن حراك مختلف لا يحتكم إلى السيارات المفخخة والبنادق والصراع على اقتسام الحصص داخل البرلمان.

ما نقصده بالفرص في الزمن الجديد هو القدرة على تجاوز "الفرضيات" التي انطلق من العمل الاجتماعي وحتى السياسي طوال أكثر من نصف قرن، فهناك وعي عام ربما كرسته الانتكاسات السابقة مع وجود أجيال قادرة على التواصل بعيدا عن الحواجز المادية المفروضة، فتخلق ارتباطا استثنائيا بمفهوم السيادة على الأرض الذي يتجلى بشكل اجتماعي لا علاقة له بالفارق المرسوم سابقا سواء كان إيديولوجيا أو مذهبيا أو دينيا، فهناك بناء اجتماعي يمكن التعامل معه اليوم على أنه في مرحلة الظهور والتكون، وهي فرصة ليس للنخب السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية فقط، بل أيضا لكل الدارسين الذي يشاهدون اليوم ما يحدث ويحاولون استشراف المستقبل أو حتى التفكير بطريقة التعامل معه.