الكاتب : مازن بلال

لمجرد التفكير بتاريخ قديم فإن اللغة ستخرج بعيدة عن إيقاع الزمن الحالي، وربما لأول مرة أشعر بصعوبة عند الحديث عن الأول من آذار كتاريخ له علاقة مباشرة بعمليات التأسيس الكبرى التي حدثت في سورية، فهناك أيام متسارعة لا تكرر نفسها، وإذا كانت الثورات في تاريخ المجتمعات حدث دوري إلا أننا نحتاج بالفعل إلى النظر لما يحدث على أنه ليس "ثورة" مطابقة لمنطق هذا المصطلح كما ظهر في القرن العشرين على الأقل، وفي نفس الوقت هي ليست تحولا اجتماعيا يسبق الثورات كما حدث في أوروبا، وأخيرا تبدو في شكلها بعيدة عن "إزاحة" نظام حاكم واستبداله بآخر.

ما يحدث هو زمن مختلف تصنعه المجتمعات بعيدا عن نخبها التقليدية، وهو أمر معاكس لمعظم الأحداث التاريخية التي قرأنا عنها أو حتى عايشناها، فليس هناك "رجال نهضة" و "ثوريين" وكتب مقدسة تحرك الناس، وهو ما يجعل الظاهرة التي نعيشها بعيدة عن ما هو مألوف ومثيرة للدهشة، وربما يحمل تتبع بعض الأمور مداخل (تبقى اقتراحات) لتفهم الظاهرة التي اقتحمت عالمنا وألقت على الأجيال الجديدة "تحديات" يواجهونها منفردين لأنهم خلقوا الحدث وبرهنوا أيضا قدرتهم على التعامل مع كل تفاصيله.

معظم الحركات السياسية أو الاجتماعية التي انطلقت بداية القرن العشرين كانت تبحث عن حالة اجتماعية جديدة، تم تسميها في بعض الأحيان بالطليعة أو النخبة أو أي مصطلح آخر، والهدف من هذا الأمر هو خلق انتقال إلى صيغة اجتماعية جديدة ربما تشكل نموذجا، ففي الحزب السوري القومي الاجتماعي على سبيل المثال هناك "الحياة الجديدة" التي ترمز إلى النموذج الذي يسعى الحزب لتعميمه، لكن السؤال هو أين "الحالة الاجتماعية" في الظاهرة التي نعيشها اليوم؟ وما يطلق عليه "شباب الفيس بوك" لا يملكون سمة محددة، فهم مدونون أو ناشطون أو "مناضلو keyboard" وهي تسميات لا تمنحهم صفات استثنائية على الأقل مقارنة مع الأجيال السابقة، لكن هناك سمة تحدث عنها الأستاذ حسنين هيكل هي معرفتهم الحقيقية لأدوات عصرهم وقدرتهم على الانسجام معها.

في المقابل كانت النخب السياسية من رواد حركات التغيير الاجتماعي والسياسي في القرن الماضي تحاول خلق نقطة فاصلة بين زمنين لتنطلق منها، وهذا الأمر يفسر البحث عن "انقلاب عسكري" كما حدث في سورية نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، أو حتى ما قام به الحزب القومي في "ثورته الثانية" عام 1961، فنقطة التحول أساسية وهي تجري بمعزل عن المجتمع ويريد أصحابها اختصار الزمن بحدث واحد وسريع، بينما "الظاهرة" التي نشهدها تتحرك بـ"التداعيات" فهي تجابه "ظاهرة" اجتماعية بخلق "ظاهرة" معاكسة، فهي اعتبرت النظام السياسي في تونس أو مصر "ظاهرة متكاملة" وليس "فئة حاكمة"، علما ان المصطلح الأخير كان رائجا طوال القرن الماضي.

الشباب الذين خلقوا الحدث الحالي ليسوا مغرمين بخلق تواريخ تميزهم عن غيرهم، وأسماؤهم تبع من نفس الحدث الذي أوجدوه، فهم لم يطلقوا على أنفسهم "أبناء الحياة" مع احترامنا الكامل لهذا المصطلح في سياق التاريخ الذي ظهر به، ولم يعرفوا أنفسهم على أنهم "زعماء" تاريخيين أو أصحاب نظريات ولذلك فهم لم يخلقوا خارطة تصنيف اجتماعي على غرار ما ظهر في خمسينيات القرن الماضي وأدت لظهور مصطلحات كثير تم عليها تصنيف التيارات السياسية، لذلك فهم أبناء حقيقيون لعصرهم تماما كما كانت الأجيال الأولى لمرحلة التحول في بداية القرن العشرين تملك انتماء حقيقيا لزمنها، لكن الكارثة الحقيقية أن الأجيال اللاحقة بقيت عالقة في زمن التأسيس، ونحن اليوم نملك مؤشرا وحيدا يدفع للتفاؤل وهو إمكانية "النفاذ" من ذلك الزمن الذي يعود للعقد الثالث من القرن الماضي.