الكاتب : جورج حاجوج
"هَرِمنا.. هَرِمنا ونحن ننتظر هذه اللحظة التاريخية".. عبارة صارت ما يشبه "السلوغن" المتداول في الشارع العربي.. قالها مواطن تونسي أو ليبي والدموع تملأ عينيه وهو يمرّ بيده فوق شعره الأشيب!.. هو مشهد تناقلته وما تزال الفضائيات لهذا المواطن الذي أكل الشيب رأسه بانتظار "هذه اللحظة التاريخية".. لحظة سقوط النظام، ليس برأس هرمه فقط، إنما بتركيبته وبنيته وذهنيته التي أمسكت بمقدرات البلاد والعباد ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر!.
قبل أن يقول المواطن المنتظِر منذ أربعين عاماً عبارته هذه، وربما بأربعين عاماً، قال محمد الماغوط ذات يوم في قراءة استشرافية لما يمكن أن يحصل عربياً، وهو بدأ يحصل على أية حال: "الطغاة كالأرقام القياسية، لا بد أن تتحطم في يوم من الأيام"!.
سباق تحطيم الأرقام القياسية يسير عربياً منتقلاً من بلد إلى آخر، ولكن ليس كالعدوى كما قال الرئيس اليمني، لأن العدوى هي للأمراض وللجائحات، وما يحصل ليس مرضاً ولا جائحة مرضية، إنما ظاهرة صحية وصحيحة!.. يسير عربياً متنقلاً من بلد إلى آخر، ليس تماشياً ـ وتنفيذاً ـ للأجندات الخارجية وتنظيم القاعدة والمهلوسين والمتعاطين كما قال العقيد القذافي وابنه سيف الإسلام!.. وهو أيضاً لا يسير تحت وقع المؤامرات الخارجية والعابثين بأمن البلاد، الطامحين إلى نشر الفوضى والعبث والخراب كما قالها مباشرة ومداورة كل من الرئيسين المخلوعين زين العابدين بن علي وحسني مبارك.. إنما هو يسير بحكم سيرورة طبيعية "اجتماعية وسياسية" تقتضيها المتغيرات الحاصلة في عالم لم تعد معطياته ومفرداته ومجتمعاته تحتمل أو تطيق الجمود والتحجر والتخشب والأصنام والمومياءات التي هَرِم ذلك المواطن بسبب رؤيته لها صباح مساء وعلى مدى عقود!.
الأهم من هذا، أن تحطيم الأرقام القياسية لا بد أن يحصل إن عاجلاً أم آجلاً، سواء أكانت هذه الأرقام لرياضيين أم لمتسابقين في أكل الموز خلال دقيقة واحدة، أم لأطول قبلة، أم لأطول ضحكة، أم لأطول قهر وظلم، أم لأطول فترة حكم لطاغية أو زعيم سياسي.. كلها أرقام قياسية "لا بد أن تتحطم في يوم من الأيام" كما قال الماغوط!. قَبِل أصحابها أم لم يقبلوا، لأن الشعوب تريد الحياة، والقدر لا بد سيستجيب، خصوصاً وأنه قدر من صنع الشعوب نفسها!.
قاعدة التحطيم هذه، تقتضي استحضار الحالتين الليبية واليمنية.. في الأولى هناك رقم قياسي عمره 41 عاماً من الانتظار، توشك في هذه الأيام أن تنتهي ليبدأ بعدها عهد جديد لا يمكن قراءة ملامحه الآن إلا من جانب واحد فقط، وهو يرتبط بما يُعرف بـ "التريث الأمريكي الأوروبي" عند قيام أية ثورة "تماماً كما حصل في تونس ومصر".. والتريث هنا رهن بالارتباك كخطوة أولى، ولاحقاً بدراسة المصالح الغربية في بلد الثورة والبحث عن كيفية الحفاظ عليها.
في ليبيا، صار واضحاً تماماً أن الغرب قد حصل على ضمانات من قيادات المعارضة والثورة من أجل الحفاظ على هذه المصالح وتأمينها "وهذا بالطبع لا يعني تخويناً لقيادات المعارضة التي تحتاج بكل تأكيد إلى اكتساب الشرعية وتأمين الدعم الدولي للمضي في إسقاط النظام، وهذا واقع سياسي لا مهرب ولا مفر منه".. لذلك انتهى عهد التريث، وجاءت الضربات العسكرية وتحت غطاء دولي "مجلس الأمن" هذه المرة.. وهذا يعني سقوط النظام حكماً!.
في اليمن هناك رقم قياسي عمره 33 عاماً، لكن الغرب ما يزال متريثاً، وينظر إلى ما يحصل هناك بعين الترقب والحذر، ويكتفي بإطلاق بعض الدعوات "الخجولة" تحضيراً لتجاوز مرحلة التريث وإعلان الموقف الصريح.. هي دعوات تكتفي حالياً بالمطالبة بوقف العنف والإقلاع عن قمع المتظاهرين والابتعاد عن استخدام القوة المسلحة.. والطريف، أنها كدعوات يطلقها سياسيون وحكام دول عظمى، لا تختلف في شيء عن دعوات تطلقها جمعيات ومنظمات حقوقية وإنسانية!.
في ليبيا ـ وبعد تأمين مصالح الغرب، وبعد ترتيب كل الأوراق مع قيادات المعارضة، وبعد استصدار قرار مجلس الأمن الدولي الذي يعمل بوصفه رافعة لمصالح القوى العظمى ـ يمكن القول بكل بساطة: قضي الأمر!.. أما في اليمن، الذي لم يعد اليوم يمناً سعيداً بعد تلك المجازر، فيمكن القول إن الأوراق لم تُرتب بعد، وما يزال الموقف الغربي يترنح ما بين بقاء النظام ودعمه، أو انتصار المعارضة ودعمها!.
بكل الأحوال فإن للتغيير وتحطيم الأرقام القياسية ثمن باهظ، قبل وخلال وبعد ترتيب الأوراق وتحطيم الرقم القياسي، وهذا طبيعي.. لكن المؤلم أن الثمن وفي لعبة المصالح الدولية وفي كل الحالات، لا يسدده إلى الشعب!.