الكاتب : نجيب نصير

تهاجم الدكتورة منى الياس الباحثين في التراث الشعبي محمود البكر ومحمد خالد رمضان بضراوة على صفحات جريدة تشرين الدمشقية، لأنهما مسا مجمع اللغة العربية باعتراض أو التماس في محاولة للحفاظ على التراث الشعبي والفلكلور كما هو وفي حالته الأصلية، حيث بدا الموضوع ملتبس برمته، فما القرابة الممكنة بين هذين الاختصاصين تجعلهما بحاجة الى دفاع قوي كالذي قرأناه على مدى صفحة كاملة في جريدة تشرين 9- 3 - 2011 .

لا أعتقد أن هناك قرابة اختصاصية بين البحث في الفلكلور والتراث الشعبي وبين اختصاص تمكين اللغة العربية الذي يقرأ خطأ (الحفاظ على اللغة العربية الفصحى)، حيث يبدو من المستحيل الحفاظ ولكنه من الممكن أن يكون تمكينا، فاللغة العربية هي لغة بجناحين شئنا أم أبينا، والجناحين متطورين أو متراجعين حسب الحراك الاجتماعي المنتج، هذين الجناحين هما الفصحى والعامية، والمصيبة الكبرى أننا لا نعترف إلا بالفصحى التي لو قرأنا بها نصا أنتج قبل قرن أو أكثر أو أقل لما فهمنا منه الكثير أو القليل بمعنى أن اللغة متحركة بالضرورة، وعلى هذا الأمر سارت كافة الشعوب العربية التي تمارس جناحي اللغة، وتكاملهما بطريقة اجتماعية مكنوزة في خبراتها اللغوية والصوتية، ولكن المجموع الخائف وغير الواثق من لغته أنها قادرة على البقاء أخترع لنفسه مهنة الخوف عليها والدفاع عنها، مهاجما كل من يتخيل أو يتوهم أنه عدو من أعدائها انطلاقا من بحاثة التراث الشعبي والفلكلور وانتهاء بسايكس بيكو (التي لا أدري من أين أدخلت الدكتور مصر فيها).

لا أدري من أي مدخل يمكننا الولوج الى أسئلة اللغة، فهي متعددة ومتطبقة، ولكن ولوج الدكتورة منى الياس من باب التراث الشعبي سائقة أدلتها من خارج الموضوع كجهل التاريخ، وسايكس بيكو، وأصل اللغة المحكية و... و الخ، فاللغة العربية هي بجناحين شئنا أم أبينا، وإذا شئنا يمكننا التأكيد حسب بعض (الباحثين) على أن الآرامية والفينيقية والسريانية والأمازيغية هي لغات عربية أو تنويع على اللغة العربية مع أنها وجدت في المجتمعات قبلها وهذا لا يهم، فما يهم هي لغتنا القومية، التي يتكلم أعضاء مجمع اللغة العربية أنفسهم بطرقتيها أو بجناحيها، فهم ذاتهم يتكلمونها في المنزل وفي الشارع وعند الغزل والحب وعند قيامهم بواجبات اجتماعية الخ، فاللغة العربية هي العامية والفصحى معا، وإذا كان 87 مليون مصري يتكلمون العامية ويقرؤون الفصحى ويستمعون الى نشرات الأخبار بها فذلك يعني أن مجتمعا قائما بذاته اختار لغته وأنتجها ومارسها، ولا يعني أي شيء آخر استعماريا كان أو عنصريا أو عدو يكرهنا، ولهؤلاء 87 مليون كامل الحق ان يتكلموا الانكليزية أو الفرنسية أو غيرها إذا كان هذا قرارهم، تماما كما في الهند التي لم تستغن عن لغاتها التي تفوق المئتين ولكن اللغة الرسمية هي الانكليزية، ومع هذا تحافظ الهند على هويتها القومية دون أي شعور بالغبن، وهاهي موجودة ومنتجة ومهابة.

مع أن سايكس بيكو هي مجرد مخطط (يسمونه عادة مؤامرة) لتقسيم سوريا (الاسم أتى من آشوريا للعلم فقط)، ولكن الكتورة الياس تصرعلى أن سايكس بيكو أخذت (بأسلوب علمي منظم قداسة التاريخ القديم السابق على التاريخ العربي) وكأن هذا التاريخ ليس تاريخنا أو أن التاريخ بدأ بين ظهرانينا بعد الحضور العربي فقط، وكأنها أيضا لا تقوم بذات التقديس غير المطلوب في الحالين على التاريخ العربي، وفي السياق الأكبر أرجو أن تذكرنا الدكتورة الياس أين فعلنا شيئا مهما في مواجهة سايكس بيكو؟ فنحن لم نكتشفها، وخضعنا لمفاعيلها كلها بعد إكتشافها وعلمنا بها، واليم ندافع عنها بقوة، واختصرناه لتصبح مجرد عدو لمجمع اللغة العربية، واليوم وبعد قرن إلا خمس سنوات علينا تنشيط الوعي والدفاع عن المجمع قبل أن تلتهمه سايكس بيكو .

العربية لغتنا القومية التي نحترم ونجل ونمكن دون أية مزاودات، وهي بجناحين مبدعين أنتجهما وأستخدمهما الإنسان في متحداته الاجتماعية المتنوعة، وهي صورة عن مقدرة المجتمعات على هضم الواصل إليها من ثقافة وأدوات ثقافية، وللمصادفة أو للخصوصية جاءت لغتنا بجناحين لا يستغنيان عن بعضهما العامية والفصحى وعلينا بقبول هذا الواقع والعمل على تطويره والارتقاء به والتفاعل معه ،وليس أدل على ذلك سوى انسجام المجتمع مع فصحته وعاميته براحة ودون شكوى ، لا بل مقدرة المجتمع على اختراع ألفاظا يضيفها الى معجمه فصحى وعامية، دون استئذان من أي من مجامع اللغة العربية المنتشرة في البلدان العربية، وربما على هذه المجمعات الأخذ من منتجات المجتمع اللغوية وإضافتها الى القاموس الفصيح، خصوصا في حالات عدم الإنتاج، فما معنى أن نحور أسم الكومبيوتر أو الكاميرا لنجعلهما حاسوبا أو مصورة ونحن لا ولم ننتجهما اختراعا وتصنيعا وتسويقا وتطويرا ، فأي فارق يمكن أن تحدثه اللغة عند هذه الحالة أكانت فصيحة أم عامية.

إنها لغتنا القومية التي يصنعها الناس وليس على مجامع اللغة سوى تصنيفها وتبويبها، لأنها لا تمتلك لا حق ولا إمكانية التدخل لحرف الناس عن إمكانياتها الحقيقية المولدة للغة .