­­­­ أثار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 القاضي بفرض حظر جوّي على ليبيا والوقف الفوري للهجمات على السكان المدنيين واتّخاذ "جميع التدابير الضرورية" لحماية المدنيين والمواقع المدنية في ليبيا، بما في ذلك تنفيذ ضربات جوية، جدلاً في الأوساط السياسية والأكاديمية والشعبية العربية حول ماهية التدخل الخارجي و مآلاته رغم أنّ القرار جاء بناءً على طلب صريح من الجامعة العربية بتدخّل مجلس الأمن لوقف قتل المدنيين الليبيين من قبل نظام القذافي. لقد نصّ قرار مجلس الأمن على عدم جواز احتلال أيّ جزء من ليبيا، وإنّما الاكتفاء بفرض منطقة حظر جوّي على الأجواء اللّيبية واتخاذ التدابير لحماية المدنيين، إلاّ أنّ تسارع الأحداث وازدياد وتيرة العمليات العسكرية قد زاد من حدّة الجدل سواء على المستوى الدولي أو على مستوى الرأي العام العربي.

في البداية حظي التدخل العسكري الغربي في ليبيا بنوع من القبول نتيجة لطبيعة نظام القذافي وفقدانه البعد الأخلاقي لاستخدامه القوّة وبكثافة ضدّ المتظاهرين المدنيين سلميا. إلاّ أنّ العمليات العسكرية أثّرت في الرّأي العام العربي أخْذا في الاعتبار حساسية الرأي العامل لتدخّل العسكري الأجنبي بعد احتلال العراق. مع الفارق الكبير أن جزءاً من القوى التي ناضلت في السابق ضدّ الاحتلال الأميركي في العراق متورّطٌ مباشرة في الصّراع ضدّ القذافي، ونقصد بشكل خاصّ التّيار الإسلامي في ليبيا وحلفاءَه في المنطقة. يشبه موقف الرّأي العام العربي تجاه ما يجري في ليبيا بعد الضربات الجوية حالة تردّد أكثر ممّا يشبه موقفه الساخط من التدخل العسكري ضدّ العراق. كما لم ينجح نظام القذافي في تغيير الموقف المنتشر ضدّه، رغم محاولاته المستميتة لإضفاء طابع ديني على الصراع باعتباره هجوماً على الإسلام واستعماراً جديداً يستهدف المنطقة برمتها.

تجري الأمور على خلفية تداخل المصالح الدولية مع أولويات ومصالح القوى الليبية الفاعلة في الداخل والخارج في جوّ يسوده قليل من الثّقة وكثير الشّكّ. ولهذا ينبني تقدير الموقف على معطيات المصالح الدولية و أولويات القوى الليبية الفاعلة على الأرض.

تتركز المصالح الدولية في ليبيا بشكل أساسي في موارد الطاقة والاستحواذ على مناطق النفوذ في أفريقيا، فإضافة إلى الميزة النسبية للنّفط الليبي، من حيث الجودة وكلفة الاستخراج وكلفة التصدير المنخفضة نظراً لقربه من السّاحل وقرب الأسواق الأوروبية، فإنّ النشاط الليبي في القارّة الأفريقية قد شكّل في الماضي القريب صداعاً لفرنسا وجنوب أفريقيا وللولايات المتحدة وقوى طامحة أخرى. ولكن، منذ عام 2003، ظهرت بوادر تفاهم وحتى تنسيق بين ليبيا وبريطانيا والولايات المتّحدة على مستوى السياسة الخارجية، بما في ذلك مناطق الصّراع في أفريقيا. و مقابل مجموعة تنازلات ليبية عن مواقف سابقة حصل نظام القذافي على ضمان وجود وحتى توريث الزعامة للقذافي الابن، الذي تولى تنفيذ الانعطافة في السياسة الخارجية إلى درجة صنع تحالفات جديدة مع أميركا وبريطانيا، وصلت حدّ التنسيق مع القوى العربية الحليفة لهما، بما في ذلك على السّاحة الفلسطينية.

إضافة للاعتبارات الاقتصادية والإستراتيجية المذكورة أعلاه، يفسح التدخل في ليبيا المجال للتطهر علَنًا من علاقة هذه الأنظمة مع القذافي، وهي علاقة قائمة على مصالحَ معروفة وأخرى غير معروفة، ولكنها في كافة الحالات محرجة أمام الرّأي العام الغربي. ولا يُستثنى من الاعتبارات أمور مثل تحقيق نجاح في السياسة الخارجية يفيد في الانتخابات الداخلية.

تختزن القارة الأفريقية نحو 10% من احتياطي النفط العالمي المثبت، ويتركّز معظمه (بنسبة 60%) في ثلاث دول رئيسة منتجة هي: نيجيريا والجزائر وليبيا. ومع بدء الليبيين في تغيير النظام السياسي للقذافي، انفتح الباب واسعاً للاّعبين الدوليين لكي يُعيدوا تموضعهم بالتنافس على حصص من مخزون النفط المقدّر بنحو 41.5 مليار برميل،والغاز المقدّر بنحو 51 مليار قدم مكعب، ومناطق النفوذ.

التردّد الإيطالي في تأييد فرض الحظر الجوّي حتى مؤتمر باريس يمكن تفسيره جزئياً بحقيقة أنّ شركة "إيني" الإيطالية هي أكبر الشّركات النّفطية العاملة في ليبيا، إذ تنتج نحو 550000 برميل يومياً، وتمثّل عائداتها من النّفط الليبي 14% من مجمل عائدات المجموعة. وتليها شركة "أو أم في" النمساوية بنسبة 10% من مجمل إيراداتها من ليبيا. ثم شركة "مراثونأويل" الأميركية 11%، وشركة "ريبسول" الإسبانية بنسبة 5%. في حين تأتي شركة "توتال" الفرنسية في مرتبة متدنية، إذ تبلغ عائداتها من النفط الليبي نحو 2% فقط من مجمل عائداتها.

تبدو فرنسا الدولة الأقلّ استفادةً من بين القوى الكبرى من عقود النّفط الليبي. وبإضافة هذا العامل إلى التردّد الفرنسي تجاه ثورتيْ تونس ومصر، يبدو الحماس الفرنسي للإطاحة بالقذافي متناغماً مع أولويّات بلد يرى أنه فقد ما لديه من احترام لدى الرّأي العام العربي - لتنكّره لمبادئ الثورة الفرنسية بتأييده نظام زين العابدين بن علي الدكتاتوري حتى الرّمق الأخير- ويرغب في ترميم صورته، وهو ما يندرج أيضا في إطار الإعداد للانتخابات الفرنسية القادمة. ومن جانب آخر يريد أن يحاسب القذّافي على تحدّيه وإعاقته للنّفوذ الفرنسي في أفريقيا.

لم يكن بمقدور الولايات المتّحدة أن تُديم التّردد تجاه التدخل في ليبيا في ظلّ إصرار فرنسي على المضي قدماً. إذ أنّ التّنافس بين البلدين على النفوذ في شمال أفريقيا سيميل لصالح فرنسا في حال قرّرت الولايات المتحدة البقاء خارج المسرح. أسّست الولايات المتحدة مناطقَ نفوذ ومصالح من خلال (أفريكوم) وبدأت تخترق منطقة النّفوذ الفرنسي في مالي والنّيجر ضمن حملتها في محاربة تنظيم القاعدة، وأقامت معسكراً لتدريب القوّات المالية والنّيجيرية في منطقة (غاو) شمال مالي. وللرّد على ذلك اعادت فرنسا وجودها العسكري في كلّ من مالي والنيجر، مع وضْع خطط لتدريب جيشيْ البلدين وتسليحهما في إطار ما يسمّى بـ"الحرب على الإرهاب". كما زادت عدد قواتها في منطقة الساحل والصحراء لتنتشر على امتداد الحزام الواصل بين موريتانيا غرباً وتشاد شرقاً وصولاً إلى جيبوتي. وسيكون لصاحب الحظوة في ليبيا ما بعد القذافي وزنٌ استراتيجي قوي. وعليه لم ولن يسمح كلّ منهما للآخر بالانفراد في محاولة كسب مناطق نفوذ جديدة محتملة بما في ذلك ليبيا.

وبالنّظر إلى القوى السياسية الفاعلة في المشهد السياسي الليبي يبدو جلياً أنّ ميزان القوى يميل لصالح القوى المناهضة لنظام القذافي، الذي حكم منذ 42 عاماً بشكل فوضوي غير واضح المعالم وديكتاتوري ومُنَفر محلياً ودولياً. فلم تحقّق ليبيا تنمية تتواءم مع إمكانياتها الضخمة، بل بدّد نظامُ القذافي الموارد على حروب تشاد والسودان وأزمة لوكربي وتسليح الجيش الايرلندي وغيره،ولعل الازدراء الذي أظهره تجاه الليبيين والعرب قوَّض شرعيته وعزّز شرعيّة مناهضيه أخلاقياً وسياسياً.

في الوقت الذي تتضعضع فيه شرعية القذافي السياسية والأخلاقية، يظهر المجلس الوطني الانتقالي بوصفه بديلاً مقبولاً داخلياً وعربياً ودولياً. يتكوّن المجلس الوطني الانتقالي من (31) عضواً يمثلون مختلف مناطق ليبيا ومدنها، تم تسمية جزءٍ منهم بشكل علني، في حين تمّ التحفّظ على أسماء ممثّلي مدن أجدابيا والكفرة وغات ونالوت ومصراته والزنتان والزاوية لأسباب أمنيّة. ويعمل المجلس راهناً على تشكيل إدارات لتسيير شؤون القطاعات الإنتاجية والخدمية، ولكنه لم يُعلن عن تشكيل حكومة بَعد. وحظي المجلس بالاعتراف الفعلي -وليس بالضرورة الرّسمي- من جامعة الدّول العربية وفرنسا. وهو الجهة الأساسية التي تنسّق معها القوى الدولية.

ويشكّل الإخوان المسلمون القوّة السياسية الأكثر تنظيماً داخل ليبيا في ظل نسبية التنظيم في ليبيا وخلخلة نظام القذافي لكل إمكانيات بناء منظّمات قابلة للحياة. ظلّت العلاقة بين الإخوان المسلمين ونظام القذافي متوتّرة طيلة فترة العقود الأخيرة. وعندما قدّم سيف الإسلام القذافي مشروعه الإصلاحي في 21 آب/أغسطس 2007، والذي وعد فيه بإطلاق الحرّيّات وتطبيق نظريته الخاصة "الدّيمقراطية المباشرة وسلطة الشّعب"، مع الالتزام بالخطوط الحمراء التي لا يمكن مسُّها. وهي بحسب تعريفه تطبيق الشريعة الإسلامية وأمن ليبيا واستقرارها، ووحدة البلد، وشخصية معمر القذافي.

وافق الإخوان المسلمون على تلك الخطّة وبدؤوا حواراً مباشراً مع سيف الإسلام،بل دخلوا وسطاء في عملية المصالحة بين نظام القذافي والجماعة الليبية المقاتلة التي قبع عدد كبير من أعضائها في السجون.

وتحمل الجماعة الليبية المقاتلة فكر السلفية الجهادية، وهي تنظيم مسلّح.أنشأتها مجموعة من الشباب الليبيين الذي شاركوا في القتال ضدّ الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. وقامت الجماعة بعمليات مسلّحة ضدّ مواقع مدنية وأمنية بليبيا في تسعينات القرن العشرين بهدف إسقاط معمر القذافي. إلاّ أنّ القوات المسلّحة الليبية وأجهزة الأمن قضت على تنظيمهم، واعتقلت مجموعةً كبيرة منهم. وفي عام 2009 بدأ زعماء الجماعة في مراجعة أفكارهم، تمخّض عن ذلك اعتذارٌ متّفق عليه للدولة، الأمر الذي أدّى إلى إطلاق سراحهم.

وهناك قوى ليبية أخرى تُجهر ببرامجها الديمقراطية، مثل الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا التي تأسّست في تشرين الأول/أكتوبر 1981تنظيما معارضاً لحكم القذافي في ليبيا يسعى للإطاحة به وإنشاء بديل دستوري ديمقراطي. تؤْمن الجبهة أنّ مواجهة نظام القذافي تقتضي توحيد كافّة العناصر الوطنية - داخل ليبيا وخارجها - في برنامج عمل ونضال متكامل يستهدف الإطاحة بحكم القذافي ومن يرتبط به، وتحرير ليبيا منه مستخدمةً كلّ الوسائل المشروعة الممكنة. وتطرح الجبهة في مرحلة ما بعد سقوط القذافي عدّة نقاط للانتقال إلى نظام ديمقراطي، أهمّها إجراء "انتخابات عامة" خلال ستّة أشهر من تشكيل مجلس الرئاسة والحكومة المؤقتة لاختيار "جمعية وطنية تأسيسية"، يكون من بين مهامّها وضع "دستور دائم" للبلاد، يطرح للاستفتاء العام. وإجراء "انتخابات عامة" لاختيار رئيس للدولة في ضوء الدستور الجديد بعد إقراره من الشعب في استفتاء عام.

وإلى جانب هذه القوى تمكّنت مجموعةٌ من الحركات الليبرالية الليبية،مثل التّحالف الوطني الليبي، الاتّحاد الدستوري،والتجمّع الوطني الدّيمقراطي من تشكيل "مؤتمر المعارضة الوطنية". بعدها تم ّعقد مؤتمر يْنله في لندن 2005 و 2008،وطالب القذافي بالتّنحّي ودعا إلى العودة إلى الشّرعية الدستورية.

ولوحظ أثناء الثورة أنّ بعض القوى الليبية في الخارج قد طوّرت خطابا أقرب إلى الغرب منه إلى العرب. وقد ترجمته إلى رغبة صريحة في التدخّل الغربي العسكري منذ بداية الأحداث. مع أنّ التدخّل ما كان ليحصل لولا الموقف العربي المساند للثّورة. ما جرّ عليها انتقادات، خاصّة لعدم تقديرها للموقف العربي المساند، وفقدانها للاتّصال الحقيقي مع الثّوار الليبيين لغرض الرّهان عليهم والعمل على تسليحهم وتدريبهم. كما لوحظ خلافٌ واضح بينها وبين التّيار الإسلامي في الداخل، وقد جرت محاولةٌ لاستثناء هذا التّيار من العضويّة في المجلس الوطني الانتقالي بحجّة عدم تنفير الغرب، ولعدم تأكيد الشّائعات في الغرب أنّ الثورة يقودها إسلاميّو القاعدة.

وفي محاولة تقدير اتّجاهات مسارات الأحداث في ليبيا يبدو جلياً أنّ استمرار القذافي في السلطة أمر بات أقرب للمستحيل.، وتبدو القوى الليبية المعارضة في وضع أفضل يوماً بعد يوم، خصوصاً مع الدّعم الدولي المتوالي لها ممثّلا في دعم المجلس الوطني الانتقالي. إلاّ أن التدخّل الدولي قد يكون له انعكاساتٌ سلبية إذَا تحوّل إلى تدخّل بقوّات برية على الأرض. إذ سيتحوّل التدخل إلى احتلالٍ، منافياً لنصّ قرار مجلس الأمن 1973 بعدم احتلال أراضٍ ليبيّة. وعليه سيتحوّل الرأي العام الليبي إلى مقاومة الاحتلال. ولذلك يرجّح خيار أن يتولى الليبيون تغيير النّظام بعد أن تمكّن القصف من إضعاف القدرة العسكرية لنظام القذافي. وفي هذه الحال ستتمكّن القوى السياسية الليبية من إرساء نظام سياسي تنافسي كوسيلة لحفظ التوازنات بينها ولحلّ الخلافات بالطّرق السّلمية وعبْر صندوق الاقتراع.وقد تخضع العملية الديمقراطية في ليبيا إلى تشوّهات لاعتبارات داخلية تفرضها برغماتية القوى السياسية اللّيبية في التّعاطي مع الشّروط الخارجية. وتتوفّر الإمكانيات لنجاح التّجربة اللّيبيّة في الموازنة بين المصالح اللّيبية والمصالح الدّولية للأسباب التّالية:

•- إنّ التّنافس الدولي في أفريقيا ليس "صفريا"، وأنّه من الممكن تقاسم المكتسبات. ويأتي اجتماع لندن لبحث تدخّل الناتو والتوصّل إلى خارطة طريق في ليبيا ضمن هذا السّياق.

•- إمكانيّة التوصّل إلى اتّفاق بشأن مسألة الطاقة لضمان أن تكون أسعار النّفط معتدلة وأن يكون أمن الطّاقة في ليبيا مُصاناً، وبذلك تتحقّق المصلحة المشتركة.

•- إن التّدخّل الخارجي في حالة ليبيا ليس تدخّلاً عسكرياً مباشراً على الأراضي الليبية،ما لا يفسح المجال أمامها لوضع شروط جوهرية على أيّ حكومة ليبية قادمة.

•- تمدّد الثورات في الوطن العربي لا يتيح للقوى الداخليّة والخارجيّة أن تحتكر العمليّة الديمقراطية أو أن تضع شروطاً مجحفة بحقّ القوى الأخرى.

خصوصاً مع انتفاضة العراقيّين ضدّ نمط المحاصصة والإجحاف. إنّ أيّ تشكيك في عروبة البلد أو رهان على تدخّل غربي إضافي على حساب الجهد الذّاتي في الحرب وفي تنظيم المجتمع، سوف يمسّ بشرعيّة المجلس الوطني الانتقالي ويفسح المجال لانقسامات قبليّة في ظلّ نفوذ أجنبي على البلد النّفطي، كما حصل في العراق.

وقد ينجح المجلس الوطني الانتقالي في أن يصبح الطّرف الأقدر على بناء النّظام المقبل، لكن هذا رُهن بقدرته على إدارة العمليّات العسكرية واللّوجستية والتّنسيق مع الثّوّار، بمن فيهم الإسلاميّون، وإشراك المناطق الغربيّة في عمليّة التحرير، والابتعاد عن التّبعية للخارج، والتّمكّن من تجاوز القبلية السّياسية، والالتزام بالدّيمقراطية فعْلاً.فهذا ما سيحدّد مدى ثقة اللّيبيّين، وحتى القوى الدوليّة، بأهليّته وقدرتها على إدارة البلاد لاحقاً في الفترة الانتقاليّة.