الكاتب : طه عبد الواحد

أزمة وفيات وولادات أم أزمة قيم وأخلاق؟

تقف روسيا اليوم وجهاً لوجه أمام أكبر خطر يهدد وجودها بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وهو ما يُعرف باسم "الأزمة الديمغرافية الروسية"، حيث تشهد روسيا سنوياً تراجعاً خطيراً لعدد سكانها. إذ تشير نتائج آخر إحصاء جرى نهاية العام الماضي في روسيا (تشرين الأول 2010) إلى أن عدد المواطنين الروس تراجع من عام 2002 وحتى عام 2010 بما يقارب 2.2 مليون نسمة، وبهذا تراجع عدد سكان روسيا دون رقم 143 مليون نسمة. وإذا كانت هناك مبررات لفقدان روسيا 1.8 مليون من سكانها في الفترة ما بين عام 1989 وعام 2002، ومن هذه المبررات التحولات التي عصفت حينها بالجمهوريات السوفييتية والتي ترافقت مع أزمة اقتصادية خانقة وهجرة واسعة من روسيا إلى دول العالم، فإنه من الصعب إيجاد أسباب تنامي ظاهرة تراجع عدد السكان الروس خلال السنوات الأخيرة، التي شهدت فيها روسيا استقراراً، بل نمواً اقتصادياً ملحوظاً وتطوراً في شتى مجالات الحياة.

ونبقى عند النتائج الأولية لإحصاء السكان العام في روسيا، وتشير هذه النتاج إلى أن عدد سكان روسيا أصبح الآن 142.9 مليون نسمة مقابل 145.7 مليون نسمة وفق إحصائية عام 2002، أي أنه تراجع بنسبة 1.6%. ويتوزع السكان بين المدن الكبرى والقرى وفق النسب التالية: 73.7% في المدن و 26.3 في القرى والمناطق الريفية. ويبلغ عدد الرجال في روسيا 66.2 مليون بينما يبلغ عدد النساء 76.7 مليون. وعلى الرغم من كل ما يقال عن عدم مشاركة كثيرين من الروس في الإحصائية الأخيرة، إضافة إلى الأحاديث عن زيادة مصطنعة في عدد سكان بعض المناطق بنسبة الثلث للحصول على دعم مادي أكبر من المركز الفيدرالي، فإن نتائج الإحصاء الشامل تثير المخاوف لدى الروس على المستويين الرسمي والشعبي، نظراً لما تحمله هذه الظاهرة من خطر يحدق بروسيا ويهدد أسس بقائها.

كثيرة هي وجهات النظر والآراء التي تشرح أسباب هذه الظاهرة، لكن يبدو أن جوهر المشكلة يكمن في التحولات الاقتصادية التي شهدتها روسيا في السنوات الأخيرة وانعكاساتها على البيئة الاجتماعية وتأثيرها السلبي المباشر على القيم الأخلاقية التقليدية السائدة في المجتمع الروسي الأصيل. فلم تعد روسيا تعرف ما هو النظام الأبوي الذي كانت تقوم الأسرة على أساسه، ولم تعد صلات القربى تتجاوز معرفة الإنسان لوالديه، وجديه. وهناك حالات كثيرة لا يعرف الطفل أبويه، ويمضي طفولته في دور رعاية خاصة تكاد تكون أقرب إلى الملاجئ التي لا يبقى في ذاكرة الطفل منها سوى الألم والعذاب. هذا في الوقت الذي يقضي فيه كثير من الآباء والأمهات أوقاتهم في تناول الخمر (وتعاطي المخدرات في السنوات الأخيرة). وهذه مسائل لا يمكن تجاهل تأثيرها المباشر ودورها في الأزمة الديمغرافية التي تعاني منها روسيا.

بشكل عام يشير معظم الباحثون خلال تناول هذه الظاهرة إلى الوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي كأحد أهم أسباب تراجع عدد السكان في روسيا، ولا شك بأن العامل الاقتصادي يلعب دوراً لا يمكن التقليل من شأنه في هذا الأمر، إلا أنه يبدو غريباً عندما نحمل سوء مستوى المعيشة وعدم توفر فرص عمل المسؤولية عما يجري على مستوى القيم الأخلاقية ، وعلى مستوى القيم الإنسانية في روسيا بشكل عام. لو نظرنا إلى قضية بسيطة، دون الحاجة إلى التعمق في البحث واستخدام مصطلحات معقدة تحتاج قواميساً لفهمها، فالأمر أبسط من ذلك بكثير، على سبيل المثال نجد أن ابتعاد المجتمع الروسي عن التحفظ النسبي وانتشار العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الأسرة يؤدي إلى تزايد حالات الإجهاض. وحسب معلومات موقع "حركة حماية المرأة" فقد اقترب عدد عمليات الإجهاض في روسيا عام 2008 من عدد الولادات، حيث وُلد 1.2 مليون طفل، بينما لم يعرف الحياة بسبب الإجهاض 1.7 مليون طفل في العام ذاته، وفي عام 2009 توفيت 340 امرأة بسبب عمليات الإجهاض وهو ما يعادل 25% من إجمالي وفيات النساء خلال الولادة.

إن الإجهاض بشكل عام عمل غير مقبول إلا لأسباب صحية يقررها الطبيب، ودون ذلك فهو عملية قتل روح، قد يسوق البعض مبررات تبيحها لكن هذا لا يجعل منها عملاً إنسانياً، لاسيما في حالة روسيا التي تشير الأرقام إلى فارق بسيط جداً بين تراجع عدد سكانها (ما يزيد عن 2 مليون نسمة) خلال ثماني سنوات (ما بين إحصائيتي 2002 و 2010) وعدد الأطفال الذين يقتلون سنوياً بسبب عمليات الإجهاض ( أكثر من 1.5 مليون لعام 2009 فقط). واللافت أن معظم من يقدمن على الإجهاض يفعلن ذلك لأسباب عدة مثل: الحمل ضمن علاقة صداقة لا رغبة فيها لدى الطرفين أو أحدهما (هو وهي) بالزواج وبناء أسرة وتحمل مسؤولية تربية الأطفال. أو لأن الفتاة التي حملت لا تريد إنجاب طفل يقف عائقاً أمام حلمها بالتقدم المهني وصولاً إلى مواقع وظيفية عالية، بعبارة أخرى أنانيتها وسعيها نحو المجد الذاتي يجعلها تبرر قتل الطفل. وكي لا تكون المرأة وحدها مسؤولة عن هذا العمل الشنيع لابد من القول بأن تنصل الشاب من مسؤولياته ورفضه لفكرة إنجاب طفل له يكون في حالات كثيرة أحد أهم دوافع المرأة نحو الإجهاض.

أطفال دور رعاية الأيتام واقع آخر لا يقل ألماً عن عمليات الإجهاض، ويؤثر بصورة مباشرة على أزمة تراجع سكان روسيا. "عدد الأطفال اليتامي في روسيا في أيامنا هذه أعلى من مؤشرات فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية" هذا تصريح نقلته نقلت إذاعة صدى موسكو (إيخو موسكفي) الروسية عن يلينا ميزولينا رئيسة لجنة شؤون المرأة والأطفال والأسرة في البرلمان الروسي. وتشير معلومات النيابة العامة الروسية إلى أن 10% فقط من الذين يتربون في دور رعاية الأيتام، ممن لا يعرفون والديهم يتأقلمون مع الحياة الطبيعية بعد مرحلة دار الأيتام، بينما يرتكب 40% منهم مختلف الأعمال الإجرامية، ويدمن 40% منهم على الكحول، ويقضي 10% منهم نحبهم انتحاراً. هذه مأساة أخرى، وليست مأساة الطفل فحسب بل ومأساة بلد تدق نواقيس الخطر لتراجع عدد سكانها بينما يموت سنوياً أعداد كبيرة من الأطفال الذين من المفروض أن يصبحوا رجال ونساء الغد ويؤسسوا أسراً وينجبون أطفالاً للحفاظ على الثروة البشرية الروسية.

أخيراً هناك ظاهرة الإدمان على الخمر، وعلى المخدرات أيضاً في السنوات الأخيرة. إذ أن الإدمان غالباً ما يكون أحد أسباب الإجهاض أو تخلي الأم عن مولودها وهو في المهد، أو حرمان الدولة الأم من حقها بتربية الطفل لعجزها عن ذلك بسبب إدمانها. ومع ما يسببه الإدمان على الكحول من أزمات إنسانية تضرب الجزء الأكثر ضعفاً والأكثر حاجة للرعاية، أي الأطفال، فإن الإدمان أحد أهم أسباب تراجع عدد سكان روسيا. ووفقاً لتصريحات طبيب الدولة غينادي أونشينكو فإن عدد الذين يقضون نحبهم في روسيا سنوياً نتيجة الإدمان على الكحول وأمراض يسببها يتراوح ما بين 75-80 ألف روسي. أما ظاهرة الإدمان على المخدرات التي تجتاح روسيا في السنوات الأخيرة فإنها تتسبب سنوياً، حسب تصريحات لفيكتور إيفانوف رئيس هيئة الدولة لمراقبة المخدرات، بموت ما يزيد عن 100 ألف رجل في روسيا بعمر لا يزيد عن 30 عاماً. . ولو جمعنا عدد الوفيات بسبب الإدمان على الكحول والمخدرات إضافة إلى ضحايا عمليات الإجهاض سنجد أن روسيا تفقد سنوياً ما يزيد عن 2 مليون إنسان هم في واقع الأمر ثروة وقوة تحتاجهما روسيا الآن أكثر مما مضى ولذلك لا بد من إعادة النظر على المستويين الرسمي والشعبي بسلم القيم الأخلاقية الذي يهيمن على عقلية جيل الشباب من الروس، ففي العودة إلى قيم وأخلاق الماضي يكمن الإنقاذ الوحيد لروسيا من خطر يهدد بتلاشيها بشرياً مع الزمن.