الكاتب : ربى الحصري

لأنني لا أملك معطيات واقعية ولا أريد الاعتماد على "شهود العيان" فسأحاول أن أكتب بعض الهواجس التي ترافق من يعيش بعيدا، فنحن لا نملك فقط أهلا في دمشق بل صورة نحملها معنا كسوريين، وفي "الاضطرابات" تصبح "الصورة" محط تشويش، ففي الوسط الأكاديمي نادرا ما يتم سؤالنا عن رأينا فيما يحدث، لأن هذا الوسط هو "الأكثر صرامة" من حيث القناعات التي يمكن أن تتبدل أو تتحول، فهم يريدون سماع الرأي للتحليل وليس من أجل الوصول إلى قواعد تفكير جديدة.

المشكلة تبدأ في مجموع الأصدقاء أو حتى الطلاب في الجامعة، وهم يأتون مع الصور الخاصة بالثورة المصرية تحديدا، فهي التي بقيت في أذهانهم ربما لسرعتها ولطاقة سبابها على تقديم نموذج، وبالطبع فمن العبث محاولة كسر هذه المساحة النمطية ليس بسبب الإعلام فقط بل لأن عملية "النمذجة" بذاتها أقرب للعقل... وهنا خطر في ذهني سؤال: هل نستطيع نمذجة الحدث السوري؟

متابعة إعلام بلدي توضح محاولات في هذا الخصوص، لكن المسألة أعقد من البحث في جانب واحد يمكن الاستناد إليه، فالسلفيون والعصابات كلها غير قادرة على تحمل الحدث السوري ضمن إطار نموذج، وأنا متأكدة بأن واحد من هذه النماذج موجود في سورية، لكنه يتراكب مع أمور أخرى، وهناك وصف سمعته ربما يجعل من محاولة تركيب "النموذج السوري" أكثر واقعية (احتجاجات غير متوازية) وذلك على شاكلة "الحرب غير المتوازية، لأن هناك عوامل متراكبة في الحدث السوري ليس بالضرورة امتلاكها لقنوات اتصال مباشرة، ولنترك نفسنا داخل الحدث لنقرأ أهم هذه العوامل:

•- الضغط الاجتماعي نتيجة الثورتين المصرية والتونسية، واعتقد جازمة أنما لمر يمران بشكل طبيعي داخل المجتمع السوري، والسبب هو انحياز اجتماعي لهذه الثورات أثر على المناخ العام، وشكل عامل قلق للمجتمع ككل، ومن هذا الضغط يمكننا فهم الالتباس الحاصل مع بداية الأحداث في درعا، حيث كان من الصعب تأطيرها داخل مسائل طرحها الإعلام السوري، مثل العصابات أم المندسين، ودون إنكار أو إقرار وجود هذا التبرير لكنه ربما كان خارج التصور بالنسبة للمجتمع.

•- السبق الإعلامي، وأنا يمكن أن اتحدث عن رهان إعلامي بشأن الثورات، بعض المحطات ولا أريد افتراض سوء النية، لكنها دخلت رهانا كاملا على مسألة الاحتجاجات فأصبحت تمهد لها شاءت أم أبت، هذا الأمر هيأ بيئة للتحرك وهو وإن بقي محدودا في سورية لكنه بيئة علينا الإقرار بأنها ظهرت وتحركت وأصبحت مصدر قلق اجتماعي إن لم يكن "خوفا" حقيقيا من شبح الفوضى.

•- غياب التصور الكامل لموضوع الإصلاح، وهنا لا أريد الحديث عن إرباك حكومي، لكن عن عدم تجاوب مع الإصلاح الذي جاء متأخرا حسب البعض لكن في اليقين الداخلي أن الاحتجاج لن يقبل بأي شيء، والسبب ليس الشحن الإعلامي، بل لأن المحتجين يملكون على قلتهم حسب ما يصلني من سورية، أو كثرتهم حسب المحطات الفضائية، تصورا لنهاية الخط.. هل هذا التصور مجرد خيال؟! ربما... لكنه فاعل على ما يبدو حتى اللحظة، وهو ما يوحي على الأقل بأن القاعدة التي تنظم الاحتجاجات ليت مجرد "قاعدة شعبية"، ولا أؤيد هنا الجزم بأن هناك حراك آخر غير معلن ربما يظهر على سطح أو يختفي نهائيا.

•- أخيرا فإن ردود الفعل الإقليمية والدولية ظهرت مبكرة بشأن علاقة إيران بما يحدث، بالتأكيد فإن مسألة الدعم الإيران لسورية ضد المتظاهرين لن يصدقها السوريون، لكنها كفيلة بتطوير الإشاعات والأهم انها مقبولة جدا للرأي العام الغربي الذي يملك قاعدة راسخة حول علاقة سورية بإيران.

كل هذه العوامل تُخرج سورية من دائرة "الثورات البريئة" لأن البيئة التي ظهرت لتستقطب الاحتجاجات لم تقدم صورة تحول اجتماعي بل على العكس تداخل ما بين الشأن الداخلي والإقليمي، وما بين الحق في الحرية والديمقراطية والرهان على أن سورية القادمة لن تكون بنفس القوة أو قادرة على تكريس دور إقليمي... حسابات المحتجين مازالت في الداخل لكنهم سرعان ما سيواجهون استحقاقات الخارج فهل يملكون تصورا لسورية بعد التظاهرات والاحتجاجات داخليا وخارجيا، هذا هو السؤال اليوم.